تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : في ظل تباين المصالح بين المنتجين والمستهلكين .. ما سعر النفط العادل؟


مخاوي الليل
31-01-2009, 04:26 AM
في ظل تباين المصالح بين المنتجين والمستهلكين .. ما سعر النفط العادل؟

http://www.aleqt.com/a/188421_14848.jpg

د.عبد الوهاب السعدون
يعد التذبذب في أسعار النفط سمة مميزة لهذه السلعة أسوة بغيرها من السلع الأساسية الأخرى، التي تمر بدورات يتذبذب خلالها السعر صعودا ونزولا وبهوامش كبيرة ولفترات قد تطول أو تقصر وفقا لعدد من العوامل في مقدمتها ميزان العرض والطلب ونمو الاقتصاد العالمي. وخلال الفترة من 2003 إلى 2007 انتعشت أسعار النفط نتيجة للنمو القوي في الاقتصاد العالمي، لكنها سرعان ما انهارت عندما اتجه الاقتصاد العالمي إلى الركود في الربع الرابع من العام الماضي.
ولم يكن التذبذب الحاد في أسعار النفط خلال الاثني عشر شهرا الماضية انعكاسا لحقائق مادية، بل نتيجة للمخاوف والتوقعات (التي تعد من سمات معظم أسواق التداول) في ظل غياب الآليات التي تشيع الاستقرار، ونشاط المضاربين الذين انكبوا على إجراء تداولات على الورق في سلعة لا توجد لديهم نية لاستخدامها! حيث تجاوزت كمية النفط المتداولة فيما بين المؤسسات المالية وصناديق التحوط صيف العام الماضي عشرة أضعاف الطلب الفعلي في السوق، الأمر الذي أسهم في بلوغ أسعار النفط مستويات قياسية.
وعندما شلت الأزمة المالية العالمية، التي تعصف بالدول الصناعية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، "قدرة" تلك الصناديق والمؤسسات المالية على الاستمرار في اللعبة، عادت السوق النفطية إلى حقائق العرض والطلب، وأصبح ما يحرك الأسعار هو النمو الاقتصادي الذي تباطأ في غالبية دول العالم.
وتولدت قناعة عبر السنين بأن التذبذبات الحادة في أسعار النفط ليست في مصلحة المنتجين ولا المستهلكين على حد سواء، ولذا انطلقت الدعوات خلال موجة التراجع الحالية، وتحديدا من الدول المنتجة التي تضررت اقتصاداتها جراء انهيار أسعار النفط. وفي هذه المقالة سيتم تناول "السعر العادل" للنفط مع تسليط الضوء على العوامل التي تدخل في تحديده وإمكانية الوصول له على المديين القصير والمتوسط .

المسار التاريخي لأسعار النفط

http://www.aleqt.com/a/188421_14850.jpg

عند تتبع المسار التاريخي لأسعار النفط خلال العقود الستة الأخيرة والمدرجة في جدول (1) يمكن تحديد سبع مراحل زمنية. ففي المرحلة الأولى وهي الأطول نسبيا وتمتد من 1947 إلى 1972، كان نطاق سعر النفط يتراوح بين 12 و18 دولارا للبرميل، وبهامش تذبذب ضيق نسبيا بلغ ستة دولارات للبرميل. أما المراحل الست التالية فتم تقسيمها إلى فترات زمنية بواقع خمس سنوات لكل مرحلة ابتداء من فترة السبعينيات ومنتصف الثمانينيات، التي شهدت ارتفاعا حادا في أسعار النفط في أعقاب حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973. والملاحظ أن المرحلة الثانية (1973 – 1978) شهدت تضاعف أسعار النفط بمعدل ثلاث إلى أربع مرات، لكنها تحركت ضمن هامش نطاق سعري بسيط بواقع تسعة دولارات للبرميل. أما في المرحلة الثالثة (1979 – 1985) فيلاحظ ارتفاع كبير في كل من سعر البرميل وهامش التذبذب قياسا بالمرحلة السابقة، حيث تضاعف السعر وبلغ نطاق تذبذبه 37 دولارا للبرميل. وفي المراحل الثلاث التالية يلاحظ تراجع أسعار النفط وتحركها ضمن هامش نطاق سعري ضيق يتراوح بين 7 و19 دولارا للبرميل، التي أعقبتها المرحلة الأخيرة (2003 – 2008)، حيث تضاعف فيها السعر بمعدل خمس مرات وبهامش تذبذب قياسي بلغ نحو 120 دولارا.
غني عن القول إن التذبذب في أسعار النفط يربك عملية التنمية الاقتصادية في الدول المنتجة للنفط، التي يشكل النفط المساهم الأكبر في إيراداتها المالية، وهو الأمر الذي يقف وراء تبنيها استراتيجيات لتنويع القاعدة الاقتصادية، ولهذا الموضوع عودة قريبة بمشيئة الله.

السعر المقترح كسعر عادل

بحكم ثقلها في صناعة النفط العالمية، بادرت المملكة عند تجاوز أسعار النفط حاجز المائة دولار للبرميل، إلى تنظيم مؤتمر جدة الذي عكس رؤيتها للوصول إلى أسعار متوازنة للنفط تحقق مصالح المنتجين ولا تضر بمصالح المستهلكين، لكن الدول الصناعية لم تبادر في حينها باتخاذ إجراءات للجم حمى المضاربات والاستثمار في الأسواق المستقبلية.
وعندما انهارت أسعار النفط استبقت المملكة المنتجين الآخرين، وعلى لسان خادم الحرمين الشريفين في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي باقتراح متوسط سعري بحدود 75 دولارا للبرميل كسعر عادل للنفط يضمن تشجيع الاستثمارات في البنية التحتية للصناعة النفطية لضمان إمداد الأسواق بحاجتها من النفط مستقبلا، وهي استثمارات ضخمة تقدرها وكالة الطاقة الدولية بنحو 350 مليار دولار سنويا.
ونتيجة لذلك لقي الاقتراح السعودي تأييدا وقبولا من قبل منظمة أوبك، واتفقت آراء أبرز الدول الأعضاء في المنظمة على أن هذا السعر يعد سعرا مناسبا للمنتجين من دول (أوبك) ومن خارجها وللمستهلكين أيضا. وأقرت الدول الصناعية المستهلكة للنفط بأن أسعار النفط ينبغي أن تكون أعلى من مستوياتها الحالية لأنها تدرك أن انخفاضها يؤثر في تطوير بدائل الطاقة ولا يصب في مصلحتها على المدى البعيد، فهو يبذر بذرة أزمة إمدادات وارتفاع في الأسعار في مرحلة لاحقة. وتجمع آراء الطرفين على أن عصر الإنتاج السهل بالتقنيات البسيطة أخذ بالتلاشي، ما يعني وجود حاجة لتقنيات متطورة ومكلفة للحفاظ على مستويات الإنتاج ورفعها لمواكبة الزيادة المتوقعة في الطلب العالمي على النفط، وأن مستوى الأسعار الحالية بات دون تكلفة الإنتاج في مواقع نفطية صعبة مثل كندا والبرازيل وروسيا وغرب إفريقيا، ما سيردع المنتجين عن الاستثمار في الصناعة النفطية الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى ارتفاع الأسعار مجددا مستقبلا إلى مستويات باهظة. لكن على الرغم من كل هذه القناعات والمواقف المعلنة لم يتم اتخاذ إجراءات عملية تعيد لأسعار النفط عافيتها.

ما الأسس التي بنيت عليها تقديرات السعر العادل للنفط؟

وفي ظل هذه الأجواء القاتمة يبرز السؤال التالي: ما الأسس التي بنيت عليها تقديرات السعر العادل للنفط؟
والإجابة عن هذا السؤال تكمن في عدد من الاعتبارات أبرزها: تكاليف الإنتاج، والسعر الذي يحقق توازن الموازنات العامة للدول المنتجة ويغطي تكاليف التنمية بالنسبة للدول النامية منها، كما يأخذ في الاعتبار كون النفط مصدرا للطاقة غير قابل للتجدد وفي طريقه إلى النضوب، وبالتالي فإن قانون الندرة ينطبق على تسعيره بما يحقق الهدف الأسمى المتمثل في إيجاد توازن بين مصالح الجيل الحالي ونصيب الأجيال المقبلة من هذه الثروة الناضبة. إضافة إلى ذلك، فإن السعر المستهدف مبني على كونه عادلا للمنتجين الهامشيين أيضا، بما يتيح لهم الاستمرار في إمداد الأسواق بالنفط نظرا لكون السوق العالمية بحاجة إلى إمدادات من جميع المصادر.
وتختلف تكاليف الإنتاج باختلاف موقع حقول النفط، حيث تبلغ التكلفة في المناطق الصعبة بين 19.50 و30.00 دولار للبرميل في الحقول المنتجة في بحر الشمال وروسيا مثلا. وترتفع التكلفة في حالة الحقول الجديدة التي يجري أو يخطط لتطويرها حيث تصل إلى 70 دولارا للبرميل في المياه العميقة في غرب إفريقيا، و114 دولارا للنفط الثقيل الفنزويلي، وفقا لدراسة حديثة من مركز كمبردج لأبحاث الطاقة.
وفي المقابل تنخفض تكلفة إنتاج النفط في الشرق الأوسط إلى نحو 7.15 دولار للبرميل أو أقل في عدد من الدول المنتجة للنفط، وبذا فهي تعد من أقل المناطق تكلفة لإنتاج النفط. وتختلف التكاليف وفقا لإنتاجية الحقل، ومعدل سريان النفط، وعمر الحقل الإنتاجي. ومثلما هو موضح في جدول رقم (2) توزع تكاليف إنتاج النفط في حقول الشرق الأوسط على ثلاثة بنود هي: الاستكشاف، الإنتاج، والتحميل والشحن، ويتراوح إجمالي التكاليف ما بين 3.60 دولار للبرميل كحد أدنى و10.70 دولار للبرميل كحد أعلى وتتوزع نسبيا على: عمليات الإنتاج بنسبة 57 في المائة، عمليات الاستكشاف بنسبة 28 في المائة، والنقل والخدمات اللوجستية بنسبة 15 في المائة.

http://www.aleqt.com/a/188421_14849.jpg

وإضافة إلى تكاليف الإنتاج، فإن السعر العادل المستهدف يختلف أيضا حسب الدول المنتجة للنفط واحتياجات التنمية التي تختلف أيضا من بلد إلى آخر. فالمملكة ومعظم الدول النفطية تحتاج إلى أسعار أعلى من الأسعار الحالية للوصول إلى سعر التوازن في موازناتها العامة، وهذا ما يوضحه الشكل رقم (1) الذي يبين تقديرات صندوق النقد الدولي لسعر البرميل الذي يحقق التوازن في موازنات دول الخليج لعام 2008، والذي بلغ معدله خليجيا 47 دولارا للبرميل، أما على صعيد الدول فيبلغ: 33 دولارا للبرميل في الكويت، 75 دولارا للبرميل في البحرين، 77 دولارا للبرميل في عمان، 24 دولارا للبرميل في قطر، 49 دولارا للبرميل في السعودية، و27 دولارا للبرميل في الإمارات. وترتفع هذه الأسعار في عدد من الدول المنتجة للنفط إلى 58 دولارا للبرميل في الجزائر، 90 دولارا للبرميل في إيران، 95 دولارا للبرميل في فنزويلا، و70 دولارا للبرميل في روسيا.

هل يمكن عمليا إقرار "السعر العادل"؟

التجارب الماضية لتحديد مستوى أسعار مقبول من قبل منظمة الأوبك لم تلق نجاحا يذكر، وكلنا يذكر تجربة المنظمة في أواخر التسعينيات لتحديد سعر 21 دولارا كسعر مستهدف للبرميل والذي تم إعادة النظر فيه إلى 28 دولارا في مرحلة لاحقة بعد التحسن الذي طرأ على أسواق النفط العالمية مطلع الألفية الثانية. والدرس المستخلص من تلك التجارب هو أن الوصول إلى "السعر العادل" من خلال اتفاقات بين الدول المنتجة والمستهلكة أمر في غاية الصعوبة، لكون كل من الطرفين يسعيان إلى تحقيق مكاسب، حتى لو كانت على حساب الطرف الآخر خصوصا في هذه الفترة التي تمر فيها الدول المستهلكة بأوضاع اقتصادية صعبة.
ومع إقرار الطرفين بأن لهم مصلحة مشتركة في أسعار متوازنة للنفط، لا تكون منخفضة جداً حتى لا تؤثر في خطط تطوير قطاع النفط في الدول المنتجة، وليست باهظة جداً حتى لا تثقل كاهل اقتصادات الدول المستهلكة، يبقى هذا الأمر مرتبطا بتوازن العرض والطلب في الأسواق العالمية، فلا المستهلكون على استعداد لدفع أسعار أعلى من أسعار السوق ولا المنتجون على استعداد للبيع بأقل من أسعار السوق.
لكن مع ذلك يمكن الاتفاق بين المنتجين والمستهلكين على الهدف المتمثل في إيجاد سوق نفطية مستقرة وتوازن في العرض والطلب، مع وجود مقدار معقول من الطاقة الإنتاجية الفائضة على المديين القريب والبعيد. يلي ذلك الاتفاق على آليات فاعلة تتمحور حول نطاق أسعار بين 70 و80 دولارا للبرميل، يكون مدعوما بالاحتفاظ بمخزون استراتيجي تتم زيادته أو توزيعه عندما تنحرف الأسعار عن النطاق المحدد. على أن تتضمن تلك الآليات قصر التداول على أولئك الذين لهم مصلحة مباشرة في السوق لتقليل دور المضاربين.
خلاصة القول إن أسعار النفط، سواء المرتفعة منها في الفترة الماضية أو المنخفضة التي يتداول فيها برميل النفط حاليا، تبقى بعيدة عن الأسعار العادلة من وجهة نظر المنتجين والمستهلكين، لوجود تباين واضح في مصالح الطرفين بشأن الاعتبارات التي تدخل في حسابها، وبالتالي فمن غير المتوقع أن نرى توافقا أو آليات عمل مشتركة لتحديد نطاقها "العادل" خصوصا في ظل الأزمة المالية العالمية.
ولعل هذه الأزمة التي نتج عنها انهيار أسعار النفط إلى مستوياتها الحالية والتي تستدعي إلى الذاكرة مقولة: "إن الأزمات لها قيمة ثمينة، فهي المناسبات التي لا يضيعها من يمتلكون الرؤية".. تجعلنا نعمل بجد على توظيفها لإحداث نقلة مدروسة وسريعة للاقتصاد الوطني تحوله من اقتصاد نفطي يعتمد على عائدات سلعة متذبذبة إلى اقتصاد معرفي محوره بناء الكفاءات الوطنية المتميزة ضمانا لاستمرار مسيرة النهضة والنماء.
وتجارب النمور الآسيوية وفي مقدمتها التجربة الماليزية تعلمنا أن التقدم لا يتحقق بما يمتلكه المجتمع من ثروات مادية، بل من خلال مقدرة الإنسان وما يمتلكه من رصيد معرفي، وهذه الحقيقة تستدعي أن تولى عملية إعداد الإنسان في مجتمعنا اهتماما مضاعفا كي يصبح أبناء الوطن ميزة وإضافة، لا عبئاً يثقل كاهل الوطن ويعيق تقدمه.

<!-- body -->