مخاوي الليل
02-02-2009, 12:21 PM
الحلقة الثالثة
اقتصاد العالم 2009: طوق النجاة في سياسة أوباما.. واستجابة الصين وأوروبا
جورج سوروس
إن مستقبل الاقتصاد العالمي سيعتمد إلى حد كبير على إذا ما كان الرئيس باراك أوباما سيتبنى مجموعة شاملة ومتماسكة من التدابير، وعلى مدى النجاح الذي سينفذ به هذه التدابير. وستكون استجابة الصين وأوروبا وغيرهما من اللاعبين الرئيسيين على القدر نفسه من الأهمية. وإذا نشأ نوع من التعاون الدولي الجيد فقد يبدأ اقتصاد العالم في التسلق للخروج من هذه الحفرة العميقة بحلول نهاية عام 2009, وإن لم يحدث ذلك سنجد أنفسنا في مواجهة فترة أطول كثيراً من الفوضى والانحدار على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.
لا توجد وسيلة لإعادة التوازن الاقتصادي بضربة واحدة, بل لا بد أولاً من حقن الاقتصاد بالقدر الكافي من المال للتعويض عن انهيار الائتمان، ثم حين يبدأ الائتمان في التدفق من جديد، فلا بد من سحب السيولة من النظام بالسرعة نفسها التي تم بها حقنه بهذه السيولة. وهذه العملية الثانية ستكون أشد صعوبة على المستويين السياسي والتقني مقارنة بالعملية الأولى, إذ إنه من الأسهل كثيراً أن يتم توزيع الأموال مقارنة بمحاولة استرجاعها. ومن الأهمية بمكان أن يتم توجيه خطط التحفيز نحو الاستثمارات المنتجة نسبياً, ولا بد أن يشكل إنقاذ صناعة السيارات الاستثناء وليس القاعدة.
الدولار
إن الجهود الرامية إلى حقن الاقتصاد الأمريكي بالمال ستواجه المصاعب على جبهتين: جبهة أسعار الصرف وجبهة أسعار الفائدة. لقد خضع الدولار للضغوط في وقت مبكر من الأزمة المالية الحالية، ولكنه نجح في استعادة عافيته بقوة مع تفاقم الأزمة. إن القوة التي اكتسبها الدولار أثناء القسم الأخير من عام 2008 لم تكن راجعة إلى الرغبة المتزايدة في الاحتفاظ بالدولار، بل كان مرجعها إلى تزايد الصعوبات المتصلة باقتراضه. لقد استحوذت البنوك الأوروبية وغيرها من البنوك الدولية على قدر كبير من الأصول الدولارية التي كانت تمولها بانتظام في سوق الإنتربنك؛ وبعد أن نضب معين السوق اضطرت هذه البنوك إلى شراء الدولارات. وفي الوقت نفسه كانت البلدان الواقعة على المحيط الخارجي للاقتصاد العالمي تحتفظ بقدر عظيم من الالتزامات الدولارية التي كان لزاماً عليها أن تسددها حين عجزت عن تجديدها. وعلى المحيط الخارجي لمنطقة اليورو تزايد ارتباط روسيا وبلدان أوروبا الشرقية باليورو؛ ولكن حين انهارت السوق في روسيا كان التأثير في اليورو مماثلاً، وذلك لأن البنك المركزي الروسي كان قد أفرط في شراء اليورو ثم اضطر إلى بيع اليورو في محاولة لحماية الروبل.
ثم انعكس ذلك الاتجاه بصورة مؤقتة بحلول نهاية عام 2008، حين قرر بنك الاحتياطي الفيدرالي تخفيض أسعار الفائدة إلى الصفر تقريباً ثم شرع في تنفيذ التسهيلات الكمية. سجل اليورو نجاحاً كبيراً، ولكن ذلك النجاح لم يدم طويلاً لأن منطقة اليورو واجهت مصاعب داخلية خاصة بها. وتسببت أعمال الشغب واسعة النطاق في اليونان في جذب الانتباه إلى المحنة التي تعيشها بلدان الصف الجنوبي ـ إسبانيا وإيطاليا واليونان ـ فضلاً عن إيرلندا. حيث ارتفعت أسعار وثائق مقايضة العجز عن سداد الائتمان في هذه البلدان، وانخفضت تقديرات الائتمان بها، كما اتسعت الفجوة في العائدات على السندات الحكومية لهذه البلدان إلى درجة خطيرة مقارنة بألمانيا. ثم اتجه اليورو إلى الانخفاض منذ بداية 2009، بل لقد سبقه الجنيه الاسترليني.
وفي مقدمة المشكلات أن ألمانيا والبنك المركزي الأوروبي يحملان وجهة نظر مختلفة فيما يتصل بالمشكلة التي تواجه الاقتصاد العالمي، وملخص وجهة النظر هذه أن بقية العالم من شأنها أن تتسبب في تقلبات واسعة في أسعار الصرف وأن تعرقل استعادة الاقتصاد عافيته. ويعمل البنك المركزي الأوروبي في إطار مبادئ توجيهية غير متماثلة: فهو ملزم بموجب الدستور بالاهتمام فقط بالحفاظ على استقرار الأسعار، وليس التشغيل الكامل للعاملة؛ أما ألمانيا فما زالت تعيش مع ذكريات التضخم الجامح أثناء جمهورية فايمار، التي مهدت الطريق أمام بروز النظام النازي. وكل من الاعتبارين يعمل ضد انعدام المسؤولية المالية وخلق النقود بصورة غير محدودة.
وهذا ينبغي أن يصب في مصلحة اليورو باعتباره مستودعاً للقيمة، ولكن التوترات الداخلية في أوروبا تعمل في الاتجاه المعاكس. والحقيقة أن غياب آلية أوروبية شاملة لحماية النظام المصرفي، واضطرار كل دولة إلى العمل بمفردها، يثير الشكوك بشأن مقدرة هذه البلدان على القيام بهذه المهمة. فهل حالة الائتمان في إيرلندا جيدة إلى الدرجة الكافية؟ وهل من الممكن أن يتقبل البنك المركزي الأوروبي الديون الحكومية لليونان باعتبارها ضمانات إضافية إلى ما هو أبعد من حدود معينة؟ الحقيقة أن الأعمدة التي تقوم عليها معاهدة ماستريخت أصبحت مهتزة ـ ناهيك عن الصعوبات التي تواجهها المملكة المتحدة وسويسرا فيما يتصل بحماية البنوك المفرطة في النمو.
وبينما تسعى الجهات التنظيمية الوطنية إلى حماية بنوكها، فقد تتسبب في إلحاق الضرر بالنظام المصرفي في بلدان أخرى. على سبيل المثال، أصبحت البنوك النمساوية والإيطالية مكشوفة بشدة في أوروبا الشرقية؛ والبنك الملكي الأسكتلندي، الذي أصبحت الحكومة البريطانية تمتلك غالبية أسهمه الآن، يزاول غالبية أعماله في الخارج، في حين أن قسماً كبيراً من الإسكان في المملكة المتحدة يتم تمويله بواسطة بنوك أجنبية. وفي نهاية المطاف ستضطر السلطات الوطنية المختلفة إلى حماية بعضها بعضا، ولكن الخطر المشترك وحده القادر على دفعها إلى ذلك.
قد يتحول أصحاب الثروات بصورة متزايدة نحو الين والذهب طلبا للسلامة، ولكنهم قد يواجهون مقاومة من السلطات ـ بصورة عاجلة في حالة الين قبل الذهب, وسينشأ قدر عظيم من الشد والجذب بين هؤلاء الذين يبحثون عن السلامة وأولئك الذين يحتاجون إلى استخدام احتياطياتهم لإنقاذ أعمالهم وشركاتهم. وفي ظل كل هذه القوى المتناقضة فمن الممكن أن نتوقع حدوث تقلبات في أسعار العملات.
أسعار الفائدة
إن الطريق إلى الخروج من فخ الانكماش يتلخص في حث التضخم أولاً ثم محاولة الحد منه. وهي عملية معقدة والنجاح فيها غير مؤكد على الإطلاق. فبمجرد عودة النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة إلى الانتعاش فمن المرجح أن تبدأ أسعار الفائدة على السندات الحكومية في الارتفاع إلى حد كبير؛ بل إن منحنى العائد على هذه السندات من المرجح أن يزداد انحداراً بسبب التوقعات. وفي كل الأحوال فإن ارتفاع أسعار الفائدة طويلة الأجل من المرجح أن يؤدي إلى خنق الانتعاش. أما التوقعات الخاصة باحتمالات تحول الزيادة الكبيرة في المدد من الأموال إلى تضخم فمن شأنها أن تؤدي إلى فترة من التضخم المصحوب بالركود, لكن هذا يشكل نتيجة مرغوبة لأنه سيساعد على تجنب الركود المطول.
إنه لمن الصعب، ولكن ليس من المستحيل، أن نتصور نجاح اقتصاد الولايات المتحدة في تسجيل نمو بمعدل 3 في المائة أو أكثر أثناء العقد المقبل. كانت الولايات المتحدة تعاني عجزا مزمنا في الحساب الجاري، الذي تجاوز 6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في ذروته. وسيختفي ذلك مخلفاً وراءه عبئاً ثقيلاً من الديون الأجنبية التي سيبتلعها العجز في الميزانية أثناء الأعوام القليلة المقبلة. ولا بد والحال هكذا أن يهبط الاستهلاك باعتباره حصة من الناتج المحلي الإجمالي. أما قطاع الخدمات المالية، الذي كان القسم الأسرع نمواً من الاقتصاد، فسيسجل انحداراً شديداً. ومع بلوغ مواليد فترة ازدهار المواليد سن التقاعد بأعداد متزايدة، فقد أصبحت الميول الديموغرافية سلبية. كل هذه تأثيرات سلبية، ولكن ماذا نستطيع أن نتوقع على الجانب الإيجابي؟ نستطيع أن نتوقع توزيعاً أكثر عدالة للدخل سواء على المستوى الداخلي أو الدولي. كما نستطيع أن نتوقع خدمات اجتماعية أفضل، بما في ذلك التعليم. هذا فضلاً عن تبني سياسة بناءة في التعامل مع الطاقة تؤدي إلى استثمارات واسعة النطاق في الطاقة البديلة وادخار الطاقة. ونستطيع أن نتوقع انخفاضاً في الإنفاق العسكري، ونمواً أسرع في بلدان العالم النامي، التي ستوفر أسواقاً أفضل للتصدير وفرصاً أفضل للاستثمار. ولكن حتى في ظل أفضل السياسات فمن المحتم أن يتأخر النمو الداخلي عن الاقتصاد العالمي.
الصين
إن ما تفعله الصين لن يقل تأثيراً في مستقبل الاقتصاد العالمي ما قد يفعله الرئيس أوباما، وستشكل العلاقات الصينية ـ الأمريكية العلاقة الثنائية الأعظم أهمية على مستوى العالم. إن للصين مصلحة هائلة في ازدهار الاقتصاد العالمي, ويستطيع أوباما أن يبني على هذا في إعادة هيكلة النظام المالي الدولي، ولكن الأمر سيتطلب قدراً أعظم من البراعة والتبصر من كلا الجانبين.
إن نشوء قوة عالمية جديدة يشكل دوماً عملية محفوفة بالمخاطر. فقد أدى ذلك مرتين إلى حرب عالمية انتهت بهزيمة القوة الناشئة. ويتعين على الصين أن تغير سلوكها كي تجعل نفسها مقبولة إن كانت راغبة في تقبلها كواحدة من زعامات العالم. لقد نجحت الصين في التأقلم مع مبدأ التنمية المتناغمة، وهو توجه سليم، ولكنها تتبنى أيضاً مبادئ أخرى، أبرزها تلك التي تتعلق بتايوان والتبت، والعمل في الاتجاه المعاكس. وبسبب السياسات الخاطئة التي انتهجتها إدارة بوش وانفجار الفقاعة الخارقة، اكتسبت الصين قدراً أعظم مما ينبغي من القوة وفي وقت أقل مما ينبغي. ومن أجل تأسيس علاقة بناءة، فينبغي على كل من الجانبين أن يتنازل. فيتعين على الرئيس أوباما أن يتعامل مع الصين باعتبارها شريكاً مساوياً، ويتعين على الصين أن تتقبل استمرار الزعامة الأمريكية, ولن تكون هذه بالمهمة السهلة بالنسبة لأي من الجانبين.
إن الصين لديها كثير مما قد تتألم لخسارته. فهي ليست دولة ديمقراطية، وهي لا تعمل وفقاً لروتين راسخ فيما يتصل بتغيير الحكومات. والفشل في تحقيق معدلات نمو مُـرضية ـ التي ليس من المفترض عموماً أن تقل عن 8 في المائة سنوياً ـ من شأنه أن يؤدي إلى اضطرابات سياسية، والاضطرابات السياسية في الصين قد تكون بمثابة الفاجعة بالنسبة للعالم, لكن ما يدعو إلى التفاؤل أن الصين ابتكرت طريقة للمشورة المدروسة المتعمقة، ورغم أنها ليست ديمقراطية إلا أنها تمنح جماعات المصالح المعنية المختلفة صوتا في تحديد السياسات. والعيب الأساسي في عملية بناء الإجماع هو أنها بطيئة ومرهقة، وهناك خطر يتلخص في عدم تحرك القيادات الصينية بالسرعة الكافية للتصدي للهبوط المفاجئ في الاقتصاد العالمي. وهنا أؤكد مرة أخرى أن التحرك الرائد القوي من جانب إدارة أوباما من شأنه أن يخلف تأثيراً مفيداً للغاية في هذا السياق.
شبه القارة الهندية
إن الهند تتمتع بقدر أعظم من الاكتفاء الذاتي مقارنة بالصين، وكان ينبغي لها أن تواجه قدراً أقل من المصاعب فيما يتصل بالحفاظ على زخمها الصاعد. لقد تعرضت بورصة الأوراق المالية في الهند لضربة أشد من الضربات التي تلقتها أغلب بلدان العالم، ولكن نظامها المصرفي، الذي ما زال في يد الحكومة إلى حد بعيد، كان أقل تأثراً. ستتأثر التحويلات القادمة من بلدان الخليج، كما ستفتر عمليات الهند التجارية في الخارج، ولكن نأمل أن تستمر استثماراتها في البنية الأساسية التي يحفل سجل الهند بنجاحاتها في النمو. والحقيقة أن توقعات الاقتصاد الكلي في الهند أكثر إيجابية من أغلب مناطق العالم.
إن أهم أوجه عدم اليقين سياسية في واقع الأمر، وهي تدور حول باكستان، التي تُـعَد دولة فاشلة. فقد تعاملت بعض العناصر في المؤسسة العسكرية وأجهزة الاستخبارات عن قرب مع الإرهابيين، وهناك خطر حقيقي يتمثل في أن تكون لهم اليد العليا من جديد. كان التخطيط للهجمات الإرهابية التي شهدتها مدينة مومباي في السادس والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 2008 شديد البراعة من حيث التوقيت والتنفيذ. وكان المقصود من تنفيذ هذه الهجمات قبل الانتخابات الهندية الإيقاع بين الهند وباكستان، وبالتالي السماح للإسلاميين بالسيطرة على باكستان، سعياً إلى البقاء في أقل تقدير أو اكتساب السيطرة على الدولة في أقصى تقدير.
لقد سمحت إدارة بوش لجميع القوى الفاعلة المختلفة بالانقلاب على بعضها بعضا: الهند ضد باكستان وأفغانستان؛ والمؤسسة العسكرية ضد الحكومة المدنية في باكستان؛ ونواز شريف ضد آصف علي زرداري داخل الحكومة المدنية ـ ناهيك عن أن القبائل العديدة التي عمدت المؤسسة العسكرية إلى تسليحها من أجل مقاتلة طالبان الباكستانية أصبحت تتقاتل فيما بينها. وستتلخص المهمة التي يتعين على إدارة أوباما أن تقوم بها في توحيد الفصائل المختلفة على مكافحة عدو مشترك، الذي يمثله الأشخاص الذين دبروا للهجمات الإرهابية ضد مومباي.
إن مشكلة باكستان ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمشكلة أفغانستان. في مستهل الأمر كانت القوات الأمريكية الغازية موضع ترحيب في أفغانستان باعتبارها قوات تحرير، ولكن حلف شمال الأطلنطي تورط في الأمر دون الاستعانة بخطة ملائمة للالتحام. وبعد ثمانية أعوام لم يعد وجود القوات الأجنبية موضع ترحيب. ومن الأهمية بمكان أن تشتمل الخطة على الدعوة إلى انسحاب منظم، ولكن هذا ليس بالأمر الممكن ما دام تنظيم القاعدة وحركة طالبان مستمرين في اكتساب القوة. ولكن إلحاق الهزيمة بهما لن يتسنى إلا بدعم نشط من السكان المحليين.
هناك ثلاث عقبات تقف في طريق النجاح: حرب المخدرات التي تؤلب السكان المحليين على القوات المحتلة؛ ووجود ملاذ آمن للإرهابيين في المناطق القَـبَلية في باكستان؛ وخسارة حكومة قرضاي شرعيتها وشعبيتها. ورغم كل ذلك فإن الوضع ليس مستعصياً على الحل، ولكن الأمر سيتطلب قدراً غير عادي من البراعة والمثابرة للسيطرة على الموقف.
http://www.aleqt.com/a/191466_16586.jpgشخص يعرض لوحة لمحل يبيع الذهب في "وال ستريت" بالقرب من بورصة نيويورك الجمعة الماضي. شهد الاقتصاد الأمريكي تراجعاً في النمو بنسبة 3.8 في المائة، وهي الأولى منذ عام 1982. وحدث هذا التراجع بسبب تداعيات أزمة الرهون العقارية.
البلدان المنتجة للنفط
لقد عانت البلدان المنتجة للنفط تحولا مفاجئا في حظها. فقد تحولت فوائضها إلى عجز، وتعرضت صناديق الثروة السيادية التابعة لها واحتياطياتها من العملات لخسائر ضخمة. لقد تأثرت بلدان الخليج بشدة، لأن قطاعها الخاص بما في ذلك بعض البنوك كان متوسعاً إلى درجة مفرطة. وكانت دبي صاحبة أعظم الفقاعات العقارية إثارة على مستوى العالم، ولا بد الآن من إنقاذها بالاستعانة بالاحتياطيات الضخمة في أبو ظبي.
بيد أن المحنة التي تعانيها البلدان المنتجة للنفط لا تشكل بالضرورة أنباء سيئة. إذ إن بعض بلدان الفوائض النفطية الكبرى، وأبرزها إيران وفنزويلا وروسيا، كانت معادية للنظام العالمي الحالي، وبفضل هذه الضربة أصبحت قدرة هذه البلدان محدودة. ومن الواضح أن انحدار قدرة إيران على رعاية الحركات السياسية والإرهابية في البلدان المجاورة كان ذا أثر مفيد بالفعل. فالوضع السياسي والأمني في العراق يبدو في طريقه نحو الاستقرار، كما أصبحت سورية أكثر استعداداً للتفاوض. والاحتمالات كبيرة في ألا يعاد انتخاب الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في انتخابات حزيران (يونيو) 2009.
وعلى النقيض من ذلك، ربما أصبحت روسيا أكثر خطراً نتيجة لانحدار أسعار النفط. ففي عهد فلاديمير بوتن حلت القومية في محل الشيوعية باعتبارها الأيديولوجية الهادية للبلاد. والآن يستغل الكرملين سيطرته على الموارد الطبيعية لإعادة ترسيخ مكانة روسيا باعتبارها قوة سياسية، وإثراء حكام روسيا وضمان سيطرتهم على البلاد، ورشوة حكام الجمهوريات السوفياتية السابقة. وهنا تعمل الأهداف المختلفة على تعزيز كل منها لغيرها من الأهداف؛ فهي مجتمعة تشكل النظام الجديد ـ أو الديمقراطية الزائفة المبنية على الثروات البترولية.
في ظل نظام بوتن، كانت القوة الاقتصادية متركزة بين أيدي مجموعتين: هؤلاء الذين حصلوا على الممتلكات وأولئك الذين اقتطعوا حصة من التدفقات المالية. والمجموعة الأولى عموماً أكثر حنكة وأشد ميلاً إلى الغرب: وأفراد هذه المجموعة يبقون أموالهم وأبناءهم في الخارج. أما أفراد المجموعة الثانية فيستغلون سلطات الدولة المتعسفة على نحو أكثر مباشرة. ولقد تضررت المجموعة الأولى بفعل الأزمة المالية؛ أما المجموعة الثانية فقد أفلتت نسبياً من أي تأثير ضار. فقد ساعدت الأزمة على تعزيز القوى التعسفية للدولة، حيث تم إنفاق قسم ضخم من احتياطيات العملة الرسمية لإنقاذ وإعادة الاستحواذ على أصول المجموعة الأولى.
وهذا أمر مهم في حد ذاته، فمع تدهور التوقعات الاقتصادية وعجز نظام بوتن عن تلبية التوقعات الاقتصادية للناس، فمن المرجح أن يعتمد بصورة أكثر نشاطاً على السلطات التعسفية للدولة. وعلى أي حال فإن من يحتل الكرملين الآن ليس البيروقراطيين المتيقظين من العصر السوفياتي، بل القراصنة الذين كانوا على استعداد لخوض المجازفة من أجل الوصول إلى ما هم عليه الآن. وقد يُـترجَم هذا إلى تدخلات عسكرية في الخارج وقمع في الداخل.
أوروبا
تفاعلت البلدان الأوروبية المختلفة على نحو مختلف إزاء صعود روسيا العدائية، متأثرة بخبراتها التاريخية ومصالحها الاقتصادية. يتعين على أوروبا أن تقاوم التحدي الجغرافي السياسي الذي تفرضه روسيا، لا بد أن تتوحد أوروبا حتى يتسنى لها أي فرصة في النجاح. ولكن السياسة الأوروبية الموحدة لا بد ألا تكون جغرافية سياسية بحتة، وذلك لأن مصالح أوروبا المشتركة لن تكون قوية إلى الحد الكافي للتغلب على المصالح الوطنية. وهذا يعني أن روسيا ربما تتبنى مبدأ "فَـرِّق تَـسُد"، كما تفعل الآن بالفعل.
إن المفتاح إلى قدرة أوروبا على تحييد الميزة السياسية الجغرافية التي تتمتع بها روسيا يتلخص في تأسيس سياسة موحدة للطاقة، في ظل شبكة توزيع تشمل أوروبا بالكامل، وسلطة تنظيمية تشمل أوروبا بالكامل ولها السبق على الأجهزة التنظيمية الوطنية. وهذا من شأنه أن يحرم روسيا من قدرتها على تأليب دولة ضد أخرى، وذلك لأن الامتياز الممنوح لأي موزع على المستوى الوطني من شأنه أن يصبح متاحاً على الفور للمستهلكين في كل البلدان الأخرى.
اقتصاد العالم 2009: طوق النجاة في سياسة أوباما.. واستجابة الصين وأوروبا
جورج سوروس
إن مستقبل الاقتصاد العالمي سيعتمد إلى حد كبير على إذا ما كان الرئيس باراك أوباما سيتبنى مجموعة شاملة ومتماسكة من التدابير، وعلى مدى النجاح الذي سينفذ به هذه التدابير. وستكون استجابة الصين وأوروبا وغيرهما من اللاعبين الرئيسيين على القدر نفسه من الأهمية. وإذا نشأ نوع من التعاون الدولي الجيد فقد يبدأ اقتصاد العالم في التسلق للخروج من هذه الحفرة العميقة بحلول نهاية عام 2009, وإن لم يحدث ذلك سنجد أنفسنا في مواجهة فترة أطول كثيراً من الفوضى والانحدار على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.
لا توجد وسيلة لإعادة التوازن الاقتصادي بضربة واحدة, بل لا بد أولاً من حقن الاقتصاد بالقدر الكافي من المال للتعويض عن انهيار الائتمان، ثم حين يبدأ الائتمان في التدفق من جديد، فلا بد من سحب السيولة من النظام بالسرعة نفسها التي تم بها حقنه بهذه السيولة. وهذه العملية الثانية ستكون أشد صعوبة على المستويين السياسي والتقني مقارنة بالعملية الأولى, إذ إنه من الأسهل كثيراً أن يتم توزيع الأموال مقارنة بمحاولة استرجاعها. ومن الأهمية بمكان أن يتم توجيه خطط التحفيز نحو الاستثمارات المنتجة نسبياً, ولا بد أن يشكل إنقاذ صناعة السيارات الاستثناء وليس القاعدة.
الدولار
إن الجهود الرامية إلى حقن الاقتصاد الأمريكي بالمال ستواجه المصاعب على جبهتين: جبهة أسعار الصرف وجبهة أسعار الفائدة. لقد خضع الدولار للضغوط في وقت مبكر من الأزمة المالية الحالية، ولكنه نجح في استعادة عافيته بقوة مع تفاقم الأزمة. إن القوة التي اكتسبها الدولار أثناء القسم الأخير من عام 2008 لم تكن راجعة إلى الرغبة المتزايدة في الاحتفاظ بالدولار، بل كان مرجعها إلى تزايد الصعوبات المتصلة باقتراضه. لقد استحوذت البنوك الأوروبية وغيرها من البنوك الدولية على قدر كبير من الأصول الدولارية التي كانت تمولها بانتظام في سوق الإنتربنك؛ وبعد أن نضب معين السوق اضطرت هذه البنوك إلى شراء الدولارات. وفي الوقت نفسه كانت البلدان الواقعة على المحيط الخارجي للاقتصاد العالمي تحتفظ بقدر عظيم من الالتزامات الدولارية التي كان لزاماً عليها أن تسددها حين عجزت عن تجديدها. وعلى المحيط الخارجي لمنطقة اليورو تزايد ارتباط روسيا وبلدان أوروبا الشرقية باليورو؛ ولكن حين انهارت السوق في روسيا كان التأثير في اليورو مماثلاً، وذلك لأن البنك المركزي الروسي كان قد أفرط في شراء اليورو ثم اضطر إلى بيع اليورو في محاولة لحماية الروبل.
ثم انعكس ذلك الاتجاه بصورة مؤقتة بحلول نهاية عام 2008، حين قرر بنك الاحتياطي الفيدرالي تخفيض أسعار الفائدة إلى الصفر تقريباً ثم شرع في تنفيذ التسهيلات الكمية. سجل اليورو نجاحاً كبيراً، ولكن ذلك النجاح لم يدم طويلاً لأن منطقة اليورو واجهت مصاعب داخلية خاصة بها. وتسببت أعمال الشغب واسعة النطاق في اليونان في جذب الانتباه إلى المحنة التي تعيشها بلدان الصف الجنوبي ـ إسبانيا وإيطاليا واليونان ـ فضلاً عن إيرلندا. حيث ارتفعت أسعار وثائق مقايضة العجز عن سداد الائتمان في هذه البلدان، وانخفضت تقديرات الائتمان بها، كما اتسعت الفجوة في العائدات على السندات الحكومية لهذه البلدان إلى درجة خطيرة مقارنة بألمانيا. ثم اتجه اليورو إلى الانخفاض منذ بداية 2009، بل لقد سبقه الجنيه الاسترليني.
وفي مقدمة المشكلات أن ألمانيا والبنك المركزي الأوروبي يحملان وجهة نظر مختلفة فيما يتصل بالمشكلة التي تواجه الاقتصاد العالمي، وملخص وجهة النظر هذه أن بقية العالم من شأنها أن تتسبب في تقلبات واسعة في أسعار الصرف وأن تعرقل استعادة الاقتصاد عافيته. ويعمل البنك المركزي الأوروبي في إطار مبادئ توجيهية غير متماثلة: فهو ملزم بموجب الدستور بالاهتمام فقط بالحفاظ على استقرار الأسعار، وليس التشغيل الكامل للعاملة؛ أما ألمانيا فما زالت تعيش مع ذكريات التضخم الجامح أثناء جمهورية فايمار، التي مهدت الطريق أمام بروز النظام النازي. وكل من الاعتبارين يعمل ضد انعدام المسؤولية المالية وخلق النقود بصورة غير محدودة.
وهذا ينبغي أن يصب في مصلحة اليورو باعتباره مستودعاً للقيمة، ولكن التوترات الداخلية في أوروبا تعمل في الاتجاه المعاكس. والحقيقة أن غياب آلية أوروبية شاملة لحماية النظام المصرفي، واضطرار كل دولة إلى العمل بمفردها، يثير الشكوك بشأن مقدرة هذه البلدان على القيام بهذه المهمة. فهل حالة الائتمان في إيرلندا جيدة إلى الدرجة الكافية؟ وهل من الممكن أن يتقبل البنك المركزي الأوروبي الديون الحكومية لليونان باعتبارها ضمانات إضافية إلى ما هو أبعد من حدود معينة؟ الحقيقة أن الأعمدة التي تقوم عليها معاهدة ماستريخت أصبحت مهتزة ـ ناهيك عن الصعوبات التي تواجهها المملكة المتحدة وسويسرا فيما يتصل بحماية البنوك المفرطة في النمو.
وبينما تسعى الجهات التنظيمية الوطنية إلى حماية بنوكها، فقد تتسبب في إلحاق الضرر بالنظام المصرفي في بلدان أخرى. على سبيل المثال، أصبحت البنوك النمساوية والإيطالية مكشوفة بشدة في أوروبا الشرقية؛ والبنك الملكي الأسكتلندي، الذي أصبحت الحكومة البريطانية تمتلك غالبية أسهمه الآن، يزاول غالبية أعماله في الخارج، في حين أن قسماً كبيراً من الإسكان في المملكة المتحدة يتم تمويله بواسطة بنوك أجنبية. وفي نهاية المطاف ستضطر السلطات الوطنية المختلفة إلى حماية بعضها بعضا، ولكن الخطر المشترك وحده القادر على دفعها إلى ذلك.
قد يتحول أصحاب الثروات بصورة متزايدة نحو الين والذهب طلبا للسلامة، ولكنهم قد يواجهون مقاومة من السلطات ـ بصورة عاجلة في حالة الين قبل الذهب, وسينشأ قدر عظيم من الشد والجذب بين هؤلاء الذين يبحثون عن السلامة وأولئك الذين يحتاجون إلى استخدام احتياطياتهم لإنقاذ أعمالهم وشركاتهم. وفي ظل كل هذه القوى المتناقضة فمن الممكن أن نتوقع حدوث تقلبات في أسعار العملات.
أسعار الفائدة
إن الطريق إلى الخروج من فخ الانكماش يتلخص في حث التضخم أولاً ثم محاولة الحد منه. وهي عملية معقدة والنجاح فيها غير مؤكد على الإطلاق. فبمجرد عودة النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة إلى الانتعاش فمن المرجح أن تبدأ أسعار الفائدة على السندات الحكومية في الارتفاع إلى حد كبير؛ بل إن منحنى العائد على هذه السندات من المرجح أن يزداد انحداراً بسبب التوقعات. وفي كل الأحوال فإن ارتفاع أسعار الفائدة طويلة الأجل من المرجح أن يؤدي إلى خنق الانتعاش. أما التوقعات الخاصة باحتمالات تحول الزيادة الكبيرة في المدد من الأموال إلى تضخم فمن شأنها أن تؤدي إلى فترة من التضخم المصحوب بالركود, لكن هذا يشكل نتيجة مرغوبة لأنه سيساعد على تجنب الركود المطول.
إنه لمن الصعب، ولكن ليس من المستحيل، أن نتصور نجاح اقتصاد الولايات المتحدة في تسجيل نمو بمعدل 3 في المائة أو أكثر أثناء العقد المقبل. كانت الولايات المتحدة تعاني عجزا مزمنا في الحساب الجاري، الذي تجاوز 6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في ذروته. وسيختفي ذلك مخلفاً وراءه عبئاً ثقيلاً من الديون الأجنبية التي سيبتلعها العجز في الميزانية أثناء الأعوام القليلة المقبلة. ولا بد والحال هكذا أن يهبط الاستهلاك باعتباره حصة من الناتج المحلي الإجمالي. أما قطاع الخدمات المالية، الذي كان القسم الأسرع نمواً من الاقتصاد، فسيسجل انحداراً شديداً. ومع بلوغ مواليد فترة ازدهار المواليد سن التقاعد بأعداد متزايدة، فقد أصبحت الميول الديموغرافية سلبية. كل هذه تأثيرات سلبية، ولكن ماذا نستطيع أن نتوقع على الجانب الإيجابي؟ نستطيع أن نتوقع توزيعاً أكثر عدالة للدخل سواء على المستوى الداخلي أو الدولي. كما نستطيع أن نتوقع خدمات اجتماعية أفضل، بما في ذلك التعليم. هذا فضلاً عن تبني سياسة بناءة في التعامل مع الطاقة تؤدي إلى استثمارات واسعة النطاق في الطاقة البديلة وادخار الطاقة. ونستطيع أن نتوقع انخفاضاً في الإنفاق العسكري، ونمواً أسرع في بلدان العالم النامي، التي ستوفر أسواقاً أفضل للتصدير وفرصاً أفضل للاستثمار. ولكن حتى في ظل أفضل السياسات فمن المحتم أن يتأخر النمو الداخلي عن الاقتصاد العالمي.
الصين
إن ما تفعله الصين لن يقل تأثيراً في مستقبل الاقتصاد العالمي ما قد يفعله الرئيس أوباما، وستشكل العلاقات الصينية ـ الأمريكية العلاقة الثنائية الأعظم أهمية على مستوى العالم. إن للصين مصلحة هائلة في ازدهار الاقتصاد العالمي, ويستطيع أوباما أن يبني على هذا في إعادة هيكلة النظام المالي الدولي، ولكن الأمر سيتطلب قدراً أعظم من البراعة والتبصر من كلا الجانبين.
إن نشوء قوة عالمية جديدة يشكل دوماً عملية محفوفة بالمخاطر. فقد أدى ذلك مرتين إلى حرب عالمية انتهت بهزيمة القوة الناشئة. ويتعين على الصين أن تغير سلوكها كي تجعل نفسها مقبولة إن كانت راغبة في تقبلها كواحدة من زعامات العالم. لقد نجحت الصين في التأقلم مع مبدأ التنمية المتناغمة، وهو توجه سليم، ولكنها تتبنى أيضاً مبادئ أخرى، أبرزها تلك التي تتعلق بتايوان والتبت، والعمل في الاتجاه المعاكس. وبسبب السياسات الخاطئة التي انتهجتها إدارة بوش وانفجار الفقاعة الخارقة، اكتسبت الصين قدراً أعظم مما ينبغي من القوة وفي وقت أقل مما ينبغي. ومن أجل تأسيس علاقة بناءة، فينبغي على كل من الجانبين أن يتنازل. فيتعين على الرئيس أوباما أن يتعامل مع الصين باعتبارها شريكاً مساوياً، ويتعين على الصين أن تتقبل استمرار الزعامة الأمريكية, ولن تكون هذه بالمهمة السهلة بالنسبة لأي من الجانبين.
إن الصين لديها كثير مما قد تتألم لخسارته. فهي ليست دولة ديمقراطية، وهي لا تعمل وفقاً لروتين راسخ فيما يتصل بتغيير الحكومات. والفشل في تحقيق معدلات نمو مُـرضية ـ التي ليس من المفترض عموماً أن تقل عن 8 في المائة سنوياً ـ من شأنه أن يؤدي إلى اضطرابات سياسية، والاضطرابات السياسية في الصين قد تكون بمثابة الفاجعة بالنسبة للعالم, لكن ما يدعو إلى التفاؤل أن الصين ابتكرت طريقة للمشورة المدروسة المتعمقة، ورغم أنها ليست ديمقراطية إلا أنها تمنح جماعات المصالح المعنية المختلفة صوتا في تحديد السياسات. والعيب الأساسي في عملية بناء الإجماع هو أنها بطيئة ومرهقة، وهناك خطر يتلخص في عدم تحرك القيادات الصينية بالسرعة الكافية للتصدي للهبوط المفاجئ في الاقتصاد العالمي. وهنا أؤكد مرة أخرى أن التحرك الرائد القوي من جانب إدارة أوباما من شأنه أن يخلف تأثيراً مفيداً للغاية في هذا السياق.
شبه القارة الهندية
إن الهند تتمتع بقدر أعظم من الاكتفاء الذاتي مقارنة بالصين، وكان ينبغي لها أن تواجه قدراً أقل من المصاعب فيما يتصل بالحفاظ على زخمها الصاعد. لقد تعرضت بورصة الأوراق المالية في الهند لضربة أشد من الضربات التي تلقتها أغلب بلدان العالم، ولكن نظامها المصرفي، الذي ما زال في يد الحكومة إلى حد بعيد، كان أقل تأثراً. ستتأثر التحويلات القادمة من بلدان الخليج، كما ستفتر عمليات الهند التجارية في الخارج، ولكن نأمل أن تستمر استثماراتها في البنية الأساسية التي يحفل سجل الهند بنجاحاتها في النمو. والحقيقة أن توقعات الاقتصاد الكلي في الهند أكثر إيجابية من أغلب مناطق العالم.
إن أهم أوجه عدم اليقين سياسية في واقع الأمر، وهي تدور حول باكستان، التي تُـعَد دولة فاشلة. فقد تعاملت بعض العناصر في المؤسسة العسكرية وأجهزة الاستخبارات عن قرب مع الإرهابيين، وهناك خطر حقيقي يتمثل في أن تكون لهم اليد العليا من جديد. كان التخطيط للهجمات الإرهابية التي شهدتها مدينة مومباي في السادس والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 2008 شديد البراعة من حيث التوقيت والتنفيذ. وكان المقصود من تنفيذ هذه الهجمات قبل الانتخابات الهندية الإيقاع بين الهند وباكستان، وبالتالي السماح للإسلاميين بالسيطرة على باكستان، سعياً إلى البقاء في أقل تقدير أو اكتساب السيطرة على الدولة في أقصى تقدير.
لقد سمحت إدارة بوش لجميع القوى الفاعلة المختلفة بالانقلاب على بعضها بعضا: الهند ضد باكستان وأفغانستان؛ والمؤسسة العسكرية ضد الحكومة المدنية في باكستان؛ ونواز شريف ضد آصف علي زرداري داخل الحكومة المدنية ـ ناهيك عن أن القبائل العديدة التي عمدت المؤسسة العسكرية إلى تسليحها من أجل مقاتلة طالبان الباكستانية أصبحت تتقاتل فيما بينها. وستتلخص المهمة التي يتعين على إدارة أوباما أن تقوم بها في توحيد الفصائل المختلفة على مكافحة عدو مشترك، الذي يمثله الأشخاص الذين دبروا للهجمات الإرهابية ضد مومباي.
إن مشكلة باكستان ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمشكلة أفغانستان. في مستهل الأمر كانت القوات الأمريكية الغازية موضع ترحيب في أفغانستان باعتبارها قوات تحرير، ولكن حلف شمال الأطلنطي تورط في الأمر دون الاستعانة بخطة ملائمة للالتحام. وبعد ثمانية أعوام لم يعد وجود القوات الأجنبية موضع ترحيب. ومن الأهمية بمكان أن تشتمل الخطة على الدعوة إلى انسحاب منظم، ولكن هذا ليس بالأمر الممكن ما دام تنظيم القاعدة وحركة طالبان مستمرين في اكتساب القوة. ولكن إلحاق الهزيمة بهما لن يتسنى إلا بدعم نشط من السكان المحليين.
هناك ثلاث عقبات تقف في طريق النجاح: حرب المخدرات التي تؤلب السكان المحليين على القوات المحتلة؛ ووجود ملاذ آمن للإرهابيين في المناطق القَـبَلية في باكستان؛ وخسارة حكومة قرضاي شرعيتها وشعبيتها. ورغم كل ذلك فإن الوضع ليس مستعصياً على الحل، ولكن الأمر سيتطلب قدراً غير عادي من البراعة والمثابرة للسيطرة على الموقف.
http://www.aleqt.com/a/191466_16586.jpgشخص يعرض لوحة لمحل يبيع الذهب في "وال ستريت" بالقرب من بورصة نيويورك الجمعة الماضي. شهد الاقتصاد الأمريكي تراجعاً في النمو بنسبة 3.8 في المائة، وهي الأولى منذ عام 1982. وحدث هذا التراجع بسبب تداعيات أزمة الرهون العقارية.
البلدان المنتجة للنفط
لقد عانت البلدان المنتجة للنفط تحولا مفاجئا في حظها. فقد تحولت فوائضها إلى عجز، وتعرضت صناديق الثروة السيادية التابعة لها واحتياطياتها من العملات لخسائر ضخمة. لقد تأثرت بلدان الخليج بشدة، لأن قطاعها الخاص بما في ذلك بعض البنوك كان متوسعاً إلى درجة مفرطة. وكانت دبي صاحبة أعظم الفقاعات العقارية إثارة على مستوى العالم، ولا بد الآن من إنقاذها بالاستعانة بالاحتياطيات الضخمة في أبو ظبي.
بيد أن المحنة التي تعانيها البلدان المنتجة للنفط لا تشكل بالضرورة أنباء سيئة. إذ إن بعض بلدان الفوائض النفطية الكبرى، وأبرزها إيران وفنزويلا وروسيا، كانت معادية للنظام العالمي الحالي، وبفضل هذه الضربة أصبحت قدرة هذه البلدان محدودة. ومن الواضح أن انحدار قدرة إيران على رعاية الحركات السياسية والإرهابية في البلدان المجاورة كان ذا أثر مفيد بالفعل. فالوضع السياسي والأمني في العراق يبدو في طريقه نحو الاستقرار، كما أصبحت سورية أكثر استعداداً للتفاوض. والاحتمالات كبيرة في ألا يعاد انتخاب الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في انتخابات حزيران (يونيو) 2009.
وعلى النقيض من ذلك، ربما أصبحت روسيا أكثر خطراً نتيجة لانحدار أسعار النفط. ففي عهد فلاديمير بوتن حلت القومية في محل الشيوعية باعتبارها الأيديولوجية الهادية للبلاد. والآن يستغل الكرملين سيطرته على الموارد الطبيعية لإعادة ترسيخ مكانة روسيا باعتبارها قوة سياسية، وإثراء حكام روسيا وضمان سيطرتهم على البلاد، ورشوة حكام الجمهوريات السوفياتية السابقة. وهنا تعمل الأهداف المختلفة على تعزيز كل منها لغيرها من الأهداف؛ فهي مجتمعة تشكل النظام الجديد ـ أو الديمقراطية الزائفة المبنية على الثروات البترولية.
في ظل نظام بوتن، كانت القوة الاقتصادية متركزة بين أيدي مجموعتين: هؤلاء الذين حصلوا على الممتلكات وأولئك الذين اقتطعوا حصة من التدفقات المالية. والمجموعة الأولى عموماً أكثر حنكة وأشد ميلاً إلى الغرب: وأفراد هذه المجموعة يبقون أموالهم وأبناءهم في الخارج. أما أفراد المجموعة الثانية فيستغلون سلطات الدولة المتعسفة على نحو أكثر مباشرة. ولقد تضررت المجموعة الأولى بفعل الأزمة المالية؛ أما المجموعة الثانية فقد أفلتت نسبياً من أي تأثير ضار. فقد ساعدت الأزمة على تعزيز القوى التعسفية للدولة، حيث تم إنفاق قسم ضخم من احتياطيات العملة الرسمية لإنقاذ وإعادة الاستحواذ على أصول المجموعة الأولى.
وهذا أمر مهم في حد ذاته، فمع تدهور التوقعات الاقتصادية وعجز نظام بوتن عن تلبية التوقعات الاقتصادية للناس، فمن المرجح أن يعتمد بصورة أكثر نشاطاً على السلطات التعسفية للدولة. وعلى أي حال فإن من يحتل الكرملين الآن ليس البيروقراطيين المتيقظين من العصر السوفياتي، بل القراصنة الذين كانوا على استعداد لخوض المجازفة من أجل الوصول إلى ما هم عليه الآن. وقد يُـترجَم هذا إلى تدخلات عسكرية في الخارج وقمع في الداخل.
أوروبا
تفاعلت البلدان الأوروبية المختلفة على نحو مختلف إزاء صعود روسيا العدائية، متأثرة بخبراتها التاريخية ومصالحها الاقتصادية. يتعين على أوروبا أن تقاوم التحدي الجغرافي السياسي الذي تفرضه روسيا، لا بد أن تتوحد أوروبا حتى يتسنى لها أي فرصة في النجاح. ولكن السياسة الأوروبية الموحدة لا بد ألا تكون جغرافية سياسية بحتة، وذلك لأن مصالح أوروبا المشتركة لن تكون قوية إلى الحد الكافي للتغلب على المصالح الوطنية. وهذا يعني أن روسيا ربما تتبنى مبدأ "فَـرِّق تَـسُد"، كما تفعل الآن بالفعل.
إن المفتاح إلى قدرة أوروبا على تحييد الميزة السياسية الجغرافية التي تتمتع بها روسيا يتلخص في تأسيس سياسة موحدة للطاقة، في ظل شبكة توزيع تشمل أوروبا بالكامل، وسلطة تنظيمية تشمل أوروبا بالكامل ولها السبق على الأجهزة التنظيمية الوطنية. وهذا من شأنه أن يحرم روسيا من قدرتها على تأليب دولة ضد أخرى، وذلك لأن الامتياز الممنوح لأي موزع على المستوى الوطني من شأنه أن يصبح متاحاً على الفور للمستهلكين في كل البلدان الأخرى.