المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عملوا من "البحر طحينة"!


مخاوي الليل
02-02-2009, 12:26 PM
عملوا من "البحر طحينة"!

محمد كركوتي
"أن تستحق التقدير ولا تحصل عليه.. أفضل من أن تحصل عليه دون استحقاق".
الأديب الأمريكي مارك توين

الواضح أن الأزمة الاقتصادية الراهنة باتت تمثل "معينا لا ينضب"، ليس فقط على صعيد الكوارث وأنواعها، ولا من جهة الآلام وعدوانيتها، ولا من حيث الحقائق وبشاعتها. بل أيضا من ناحية "أبطالها" الذين يظهرون تباعا. فلم تعد هذه الأزمة حكرا على المؤسسات المنكوبة ومديريها المصدومين، ولا على البنوك المركزية وحكامها المرعوبين، ولا على المحتالين والجشعين، ولا على المحللين والمتفلسفين، ولا على المسرحين والعاملين، بل شملت المقيِِمين والمصنِفين. وكأن الأزمة الاقتصادية تنقصها العناصر الكفيلة بتحويلها إلى فاجعة!
لقد تحولت وكالات التصنيف والتقييم إلى جزء من الأزمة، ليس بعد اندلاعها، بل قبل ذلك بأشهر في بعض الحالات، وبسنوات في حالات أخرى، الأمر الذي حملها جزءا كبيرا من وزر الكارثة العالمية، خصوصا مع موجود جهات ومؤسسات وأفراد، وحتى مسؤولين حكوميين كبار، كانوا ينظرون إلى هذه الوكالات على أنها هيئات لا تخطئ، وأنها تمتلك من النزاهة، ما يوازي زخم الاحتيال الذي يتمتع به هذه الأيام الأمريكي برنارد مادوف الذي سرق وبدد أكثر من 50 مليار دولار من أموال المستثمرين مؤسسات وأفراد. ولأن وكالات التصنيف هكذا فقد بقيت فوق الشبهات، وخارج التشكيك في قدراتها ونياتها.. وبالتالي أعمالها. ومن هنا قامت هذه الوكالات بأعمالها دون النظر خلفها. فهي تعلم أن كلمتها مسموعة عند الصغير والكبير، وأن تقييماتها وتصنيفاتها لا ترد، بل لا تناقش.
وتكمن المفارقة هنا، في أن وكالات التصنيف التي من المفترض أن تحدد معايير الجودة والملاءة والثقة في المؤسسات الخاضعة لتقييمها، لم تشهد مطالبة واحدة جدية في السنوات القليلة الماضية، بضرورة إخضاعها للفحص والتدقيق، ومدى ملاءاتها هي في القيام بدور المقيم. وبالتالي فقد أثبتت الأزمة الاقتصادية – من ضمن ما أثبتت - أن هذه الوكالات تنقصها الجودة. ولأنها كذلك نقصتها النزاهة. فهي التي طمأنت العالم أن بنك " ليما برازر" الأمريكي لا غبار عليه، وأن بنك "نورثرن روك" البريطاني متماسك، وأن "ميريل لينتش" الأمريكية متوازنة. بل إن وكالات التصنيف هذه هي التي قامت على مدى سنوات بتجميل صورة مادوف البشعة، ووضعته ومؤسساتها الوهمية منها والحقيقية فوق الشبهات. فهي في الواقع قدمت صورة جميلة لحقيقة بشعة، وحسب التعبير الشعبي المصري، عملت "البحر طحينة"، ونسى الجميع – أن تناسوا ـ أن الجودة لا تبدأ إلا من الداخل، ثم تحفر لنفسها طريقا إلى الخارج.
ولأنها كذلك .. فلا غرابة في أن تكون المؤسسات التي خضعت لتقييم وكالات التصنيف هذه، أولى الهيئات المنهارة، وأول من نشر الصدمة والآلام معها، وأول من "بشر" بكساد عالمي يصعب حتى على القائمين على إدارته وضع مدة محددة أو متوقعة لانتهائه. فهذه الوكالات التي لن تعمل بالجودة المطلوبة من أجل تحديد مستوى جودة الآخرين، لم تكن نزيهة، ولا سيما في خضم اتهامات لا تنتهي من أنها قدمت مصالحها ومستقبل أرباحها الهائلة على مصالح من يفترض أنها تعمل لأجلهم. ولا أقول هنا مصالح مديري المؤسسات المنكوبة، لأن على هؤلاء آلاف الملاحظات، بل أقصد مصالح المستثمرين كبارا وصغارا، ابتداء من المتقاعدين وانتهاء بمضاربي الأسهم، مرورا طبعا بمشتري العقارات السكنية والاستثمارية، فضلا عن أولئك الذين يبحثون عن 100 دولار أمريكي إضافي من أجل مواجهة ضغوط الحياة المعيشية. والمثير أن وكالات التصنيف التي ارتعدت مما حدث ويحدث على الساحة العالمية ( المفروض أنها تعرف ماهية الحدث قبل وقوعه)، لم تتردد في تخفيض مستوى تقييماتها الخاصة بالمؤسسات العالمية (والعربية أيضا) دون أن تقدم أية مبررات معقولة – ولا نقول كافية - لهذه التقييمات المتدنية، تماما كما فعلت في رفع تقييماتها لهذه المؤسسات قبل الأزمة.
إذا.. حقيقة الأزمة ليست في فداحة عناصرها، بل في غرابة مقدماتها. وليست في محطتها، بل في الطرق التي أوصلت العالم إلى هذه المحطة. فالتقييمات "الوهمية"، ولنكون معتدلين، نقول: "التقييمات غير الواقعية"، دفعت الغالبية العظمى من المستثمرين بكل شرائحهم، إلى التوجه نحو الشركات التي حظيت "بمباركة" الوكالات، دون استفسارات أو أسئلة، ودون استخدام حقهم في استقراء مصير أموالهم. نحن نعلم أن الاستثمار – أي استثمار- يخضع لمعايير السوق، وتكتنفه الخسائر كما الأرباح، لكن الذي نعرفه أيضا، أن هناك معايير وضوابط لا تقدم ضمانات للربح، بل توفر آليات للاختيار. وهذا ما غاب في ظل وجود هذه الوكالات التي نجحت في تسويق مؤسسات عديدة (مرة أخرى عربية وأجنبية)، ذهل حتى مديروها من إمكانية تسويقها، ولا سيما أنها كانت تكافح "الأمواج" خوفا من الغرق، وكانت صامدة بالوهم لا بملاءاتها.
لقد نجحت وكالات التصنيف العالمية "المرموقة" في صناعة الوهم، في الوقت الذي كان عليها أن تكشف هذا الوهم، وتضع المعايير الكفيلة بإبراز الحقائق. ونجحت في بناء واجهة جميلة جدا - بل وساحرة - لمنزل منكوب من الداخل.. بل نجحت حتى في طبع علامات الاستغراب على وجوه مديري المؤسسات الذين كانوا يعرفون ما يملكون.. ولكن هل كانوا يملكون أي شيء؟!

<!-- body -->