المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حدود العجز المقبول في ميزان المدفوعات!


مخاوي الليل
02-02-2009, 12:28 PM
حدود العجز المقبول في ميزان المدفوعات!

د. عبد العزيز بن حمد القاعد
سُحب الأزمة المالية العالمية تُلقي بظلالها على أرجاء المعمورة كافة مُخلفةً كثيرا من الإفرازات الاقتصادية والمالية, لعل من أهمها الاختلالات المُتوقعة في موازين المدفوعات، ومنذرةً بسنوات عجاف لا يسلم منها القوي قبل الضعيف. المشكلة هي شكوى غالبية البلدان متقدمها وناميها, إن لم نقل جُلها, من مشكلة العجز في موازين مدفوعاتها بسبب انخفاض النمو الاقتصادي الناتج عن انخفاض الطلب العالمي على السلع والخدمات بعامة والمواد الأولية بخاصة وارتفاع المصروفات الحكومية نتيجةً لزيادة الإنفاق الحكومي على كثير من السلع والخدمات المُقدمة للمواطنين.
حقيقة الأمر لا بد من تأكيد أمر في غاية الأهمية, فما نعنيه هنا هو العجز في ميزان المدفوعات, حيث إن تغير الميزان سلبا أو إيجابا سينعكس بالتأكيد على الميزانية العامة للدولة ووضعها. فتصدير السلع والخدمات والرساميل إلى الخارج يعد ديناً للدولة على الغير بينما ما تستورده من سلع وخدمات ورساميل دين على الدولة للغير. إذاً فهو عبارة عن سجل تُقيد فيه جميع المعاملات الاقتصادية التي تتم بين المقيمين في الدولة وبين المقيمين في البلدان الأخرى لمدة سنة كاملة. ويتضمن ميزان المدفوعات قسمين رئيسين الأول يشمل الحساب الجاري, وهذا يتضمن عمليات التبادل التجاري من صادرات وواردات من السلع والخدمات, والقسم الآخر يشمل حساب العمليات الرأسمالية ويتضمن التحويلات الرأسمالية بكل أنواعها، ومن الناحية الحسابية وطبقا لقاعدة القيد المزدوج فإنه لا بد من تساوي الجانبين الدائن والمدين.
يوصف كثير من الدول, خاصةً النامية منها, بأنها تُعاني عجوزات مزمنة في موازين مدفوعاتها بسبب حاجتها إلى الاستيراد من الخارج, وذلك لضعف القاعدة الإنتاجية لديها, فالعجز في ميزان المدفوعات ليس من الأمور المحمودة على كل حال كون الدولة مدينة للدول الخارجية وعليها سداد التزاماتها تجاه الغير عن طريق الإقبال على عملات هذه الدول ما يؤدي إلى تآكل عملتها أمام العملات الأخرى ويجعلها في نظر غير الضعيفة ماليا, خاصة في عيون المؤسسات المالية العالمية. أما بالنسبة إلى الفائض في ميزان المدفوعات فهو كذلك غير مُحبذ إلا أنه لا يُقارن بالعجز، فوجود الفائض يعني أن الدولة دائنة للدول الأخرى ونتيجته ارتفاع الطلب على صادراتها, وبالتالي أسعار مُنتجاتها, وقد تكون النتيجة التضخم المحلي. من الممكن تحديد أسباب العجز، فقد يكون بسبب اختلالات هيكلية في الاقتصاد الوطني أو لأمور طارئة يصعب السيطرة عليها كالحروب والكوارث الطبيعية. بالنسبة إلى الدول النامية في العادة يتركز العجز بسبب زيادة الاستيراد بعامة من السلع الرأسمالية اللازمة للتنمية, التي قد تزيد من الإنتاج والتوظيف ومن ثم القدرة على الوفاء بتسديد الالتزامات المالية المترتبة على هذه الواردات، وإما بسبب ارتفاع الواردات من السلع الضرورية الاستهلاكية كالمواد الغذائية, وذلك لمواجهة الزيادة السكانية, وهذه قد لا تترتب عليها سرعة الوفاء بالديون المُستحقة جراءها. زيادة الواردات تعد كذلك اختلالاً هيكليا في الاقتصاد الوطني كون هذا الاختلال ناشئا عن الإفراط في خروج الاحتياطيات من العملة الصعبة, وهذا في حد ذاته مشكلة، لأن الاقتصاد الوطني سيُعاني هذا النزف, خاصة أنه في حاجة ماسة إلى هذه الاحتياطيات من العملات الصعبة لتغطية العجز المؤقت المُتوقع مستقبلاً.
ما يعنينا في هذا المقام حالة الدول التي تعتمد على سعر الصرف الثابت، فخشيةً من زيادة الطلب على السلع الأجنبية وما ينتج عنه من عجز فسيقوم البنك المركزي بدوره الفاعل في تخفيض قدرة الأفراد على الاستهلاك, الذي سيؤثر سلباً في الطلب الكلي ما يؤدي إلى انخفاض الطلب على العملات الأجنبية ومن ثم مستويات الأسعار المحلية, وقد يرفع طلب الأجانب على السلع المحلية ومن ثم زيادة دخلنا من النقد الأجنبي وسينعكس إيجاباً على وضع ميزان المدفوعات. على كل حال، البنك المركزي قد يستخدم بعضا من أدواته للتأثير في السيولة لدى الموطنين كسعر الخصم ونسبة الاحتياطي القانوني, وذلك للتأثير في الطلب الكلي من السلع والخدمات. وفي هذا السياق لا يفوتنا التنويه بأن سياسات المحافظة على توازن ميزان المدفوعات قد تتعارض بشكل رئيس مع سياسات البنك المركزي كارتفاع سعر الفائدة أو زيادة البطالة, لذا لا بد من الأخذ في الحسبان السياسات السليمة الملائمة في الوقت المناسب.
النتائج الحالية الواقعية للأزمة المالية العالمية تُؤكد أن هذه الأزمة ستترك بصمة واضحة على اقتصاداتنا الخليجية, فقد تواجه صعوبات في الحصول على النقد الأجنبي بسبب انخفاض أسعار النفط، وإن استمر الحال – لا قدر الله - ستكون السلطات النقدية في وضع حرج من أجل إعادة التوازن إلى موازين المدفوعات. فخلال السنوات الخمس الماضية تمتعت اقتصاداتنا بكميات وفيرة من الاحتياطيات من النقد الأجنبي, وعليه فإن الدول المُعتمدة على مصدر واحد للدخل دائمة التأرجح بين الفائض والعجز، السؤال الجدير بالإجابة: هل استمرار أسعار النفط حول مستوياتها الحالية أو أقل ستُؤثر في مصادر تمويل العجز, وبالتالي تُشكل مصدر قلق لاقتصادنا الوطني على المديين المتوسط والطويل؟
الإجابة المُستحقة عن هذا السؤال تجعلنا نُعيد تأكيد الحكمة العربية القائلة "احفظ قرشك الأبيض ليومك الأسود", ولا شك أننا وعلى المدى القصير سنستخدم ما ادخرناه إذا كانت لدينا الرغبة في الحفاظ على مستويات الإنفاق الحالية أو قريبا منها، لكن في حالة عدم تمكننا من تقليص الإنفاق ليكون قريبا أو في متناول الإيرادات فسنكُون في وضع لا بد فيه من الاقتراض إما محلياً وإما خارجياً. الاقتراض الخارجي لا شك أنه محفوف بكثير من المخاطر السياسية والاقتصادية ما يجعلنا دائما تحت رحمة القوى الأجنبية, أما الاقتراض المحلي فسيحرم الاقتصاد الوطني من فرصة الاستفادة من المدخرات المحلية في تنمية طاقاتنا الإنتاجية. لا بأس إن كان هذا الاقتراض سيُوجه بالتأكيد إلى مشاريع حيوية إنتاجية تُساعد على زيادة الدخل والتوظيف ومن ثم سداد هذه الديون, أما إن كانت لأغراض استهلاكية بحتة فسيترتب عليها نتائج اقتصادية وخيمة بما فيها الهدر المالي وتكاليف الاقتراض المرتفعة. تأكيداً لما سبق لا شك أن العجز غير مُرحب به البتة لكن لا بد من التعايش معه وقبوله كإفراز لظاهرة اقتصادية عالمية الولادة والمنشأ وبإمكاننا ألا نخافُه أبدا, خاصةً إذا كان الهدف من التمويل الاستخدام الأمثل للموارد المالية في مشاريع مستقبلية، مبرمجة، ومعروفة تماما يترتب عليها توظيف الأيدي العاملة الوطنية وزيادة الدخل, مثل هذه المشاريع يجب التأكيد عليها أولاً وأخيراً من أجل النهوض باقتصادنا الوطني وتنوعه.

<!-- body -->