مخاوي الليل
08-03-2009, 05:09 PM
الخلط بين فقه المعاملات التجارية والمالية والاقتصاد الإسلامي (2 من 3)
د. صالح السلطان
انتقدت في الحلقة الأولى تسمية فقه المعاملات التجارية والمالية بالاقتصاد الإسلامي. وقد يرد عليّ أنه لا مشاحة في الاصطلاح. ولكن هذه العبارة الشائعة ليست على إطلاقها. فحيث انتشر استعمال مصطلح، واستقرت دلالته في الأذهان (هذا لا ينفي وجود خلافات في التفاصيل)، فإن صرفه إلى غير هذا يسبب لبسا وتشويشا في الأذهان. مثلا، لا يستساغ أن يطلق أحدهم اسم تفسير على كتاب يشرح الحديث، لأنه استقر في الأذهان أن كلمة تفسير تطلق على تفسير كتاب الله، وليس الحديث النبوي. كما لا يستساغ أن يعد المتخصص في اقتصاد المالية العامة نفسه متخصصا في القانون المالي، والعكس كذلك.
من جهة أخرى، إننا لا نضيف كلمة إسلامي إلى فقه، ولذا فجوهر التسمية في اقتصاد إسلامي ينصب على كلمة اقتصاد، وليس على كلمة إسلامي. ولكن كلمة "اقتصاد" ليس لها معنى أو معان اصطلاحية في المجتمعات العربية طيلة القرون التي سبقت عصر الثورة الصناعية وتطور العلوم الحديثة. وأئمة الأمة السابقون لم يسموا القضايا الفقهية المتعلقة بالاقتصاد (حسب التعبير المعاصر) الموجودة في عهدهم، لم يسموها الاقتصاد (أو الاقتصاد الإسلامي). ولذا فإنه ينبغي فهم المعنى الاصطلاحي لكلمة "اقتصاد" من البيئة التي نبت فيها المصطلح، وهذه قضية غفل عنها أكثرية من يكتبون في الاقتصاد الإسلامي، رغم أنها جوهرية. وهذه قضية سأتحدث عنها بشيء من التفصيل في مقالات مستقبلية ـ إن شاء الله.
الذين يرون أن علم الاقتصاد يهتم ببحث أحكام المعاملات الاقتصادية أي أحكام ما ينظم كسب المال وإنفاقه وأوجه تنميته، مخطئون خطأ صريحا، لأن أحكام المعاملات الاقتصادية (في التشريعات الوضعية) لا تبحث في علم الاقتصاد ولكن في القانون، فيما للسلطة علاقة به، كالقانون المدني والقانون التجاري وقانون العمل وغيرها، بغض النظر عن كونها تسن بمعزل عن الشريعة أو لا. وأما المسائل التي لها علاقة بآداب السلوك الفردي وأحكامه فهي لا تدرس أصلا في علم الاقتصاد، ويمكن بحثها في الفقه ويمكن إدراجها ضمن علم مستقل يعنى بالآداب والأخلاق، بحيث تدخل فيه آداب أعمال متنوعة كتناول الطعام والسفر والنوم واللباس والتوسط في الإنفاق وما إلى ذلك.
لو كان علم الاقتصاد يبحث في أحكام وتشريعات المعاملات المتعلقة بالمال والاقتصاد، فإنه حينئذ لغو لا فائدة منه أصلا، لوجود الفقه و/أو القانون وكلاهما أسبق من علم الاقتصاد.
من أسباب الوقوع في تسميتها بتسمية غير موفقة (الاقتصاد الإسلامي) ضعف اهتمام الكتب الفقهية العامة المؤلفة في القرون السابقة (كالمغني والروض المربع وبدائع الصنائع) ببعض المباحث المتعلقة بالمال، كأحكام الكسب والإنفاق والحسبة والمال العام.
ومن الأسباب التي أراها، اقتصار بعض أساتذة الفقه في كليات الشريعة على تدريس ما في الكتب القديمة. وزيادة في الإيضاح، أذكر المثال التالي من دراستي في كلية الشريعة في الرياض قبل سنين. كان فقه البيع (وما يلحق به) يدرس في السنة الثانية، وكان المنهج ينص على أنه ينبغي على أستاذ المادة أن يتعرض إلى أحكام القضايا المستجدة في عالم التجارة والمال، ولكن هذا لم يحدث، فقد قصر الأستاذ تدريسه على الموضوعات الواردة في كتاب الروض المربع، وهو كتاب مؤلف منذ مئات السنين. كما أنه لم يتعرض إلى أحكام موضوعات اقتصادية تناولتها كتب قديمة، ولكنها لم تدرج في هذا الكتاب وغيره من كتب الفقه العامة. ويبدو لي أن السبب ضعف حصيلة الأستاذ في هذه المسائل. ومن باب الموضوعية، لم يكن كل الأساتذة هكذا، فعلى سبيل المثال، حضرت السنة التمهيدية للماجستير في الفقه والأصول، في كلية الشريعة في الرياض قبل سنين، وقد درسنا فيها الشيخ عبد الله بن غديان، عضو هيئة كبار العلماء، فقه المعاملات، ومن بينها أحكام العمليات البنكية، وكان يستند في شرح ماهية هذه العمليات إلى كتب قانونية في القانون التجاري.
يمكننا أن نفهم الاعتراض على التسمية بطريقة أخرى. لو استمر زمام الحضارة والتقدم الاقتصادي في يد المسلمين (بدلا من الضعف والتخلف الحضاري الذي أصاب المسلمين بعد بضعة قرون من ظهور الإسلام) مما يعني بالتبع، استمرار الاجتهاد مفتوحا في الفقه لمواكبة المستجدات والتطورات الحضارية والمادية، أو ما سماه أسلافنا بالنوازل، لكانت البحوث والمناقشات التي أطلق عليها بعض الفقهاء المعاصرين مسمى الاقتصاد الإسلامي من ضمن مؤلفات الفقه، ولما وضعت تسمية الاقتصاد الإسلامي أصلا لهذا النوع. وهذه النتيجة لابد منها، طالما أننا نؤمن بأن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان. وإذا قال قائل إن التسمية نتيجة أن ذلك لم يقع، أعني استمرار زمام الحضارة في يد المسلمين، قلنا له، لا اعتبار لهذا، وإلا لكانت صلاحية الشريعة تلك متوقفة على ريادة المسلمين الحضارية، وهذا غير صحيح، بل القصور من أساتذة الشريعة فيما ألفوه ودرسوه في كليات الشريعة. من جهة أخرى، من الممكن أن تضاف كلمة إسلامي إلى الفقه لا الاقتصاد.
ومما يبين طرفا من ذلك القصور، أن الفقه تأثر بالمناقشات ذات الطبيعة الفقهية، والتي أنتجها ثلة من المؤلفين فيما سمي بالاقتصاد الإسلامي، كما تأثر بالمناقشات التي أثارها القانون في الفرع التجاري خاصة، ودفعت تلك المناقشات فقهاء وطلاب علم في التخصص الفقهي لدراسة قضايا مالية واقتصادية معاصرة فقهيا، بدلا من التوقف عند مناقشة المسائل التي كتب عنها أسلافنا ـ رحمهم الله ـ كثيرا. وقد اضطرتهم تلك الدراسة إلى التعرف على كثير مما يجري في عالم المال والاقتصاد، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
<!-- body -->
د. صالح السلطان
انتقدت في الحلقة الأولى تسمية فقه المعاملات التجارية والمالية بالاقتصاد الإسلامي. وقد يرد عليّ أنه لا مشاحة في الاصطلاح. ولكن هذه العبارة الشائعة ليست على إطلاقها. فحيث انتشر استعمال مصطلح، واستقرت دلالته في الأذهان (هذا لا ينفي وجود خلافات في التفاصيل)، فإن صرفه إلى غير هذا يسبب لبسا وتشويشا في الأذهان. مثلا، لا يستساغ أن يطلق أحدهم اسم تفسير على كتاب يشرح الحديث، لأنه استقر في الأذهان أن كلمة تفسير تطلق على تفسير كتاب الله، وليس الحديث النبوي. كما لا يستساغ أن يعد المتخصص في اقتصاد المالية العامة نفسه متخصصا في القانون المالي، والعكس كذلك.
من جهة أخرى، إننا لا نضيف كلمة إسلامي إلى فقه، ولذا فجوهر التسمية في اقتصاد إسلامي ينصب على كلمة اقتصاد، وليس على كلمة إسلامي. ولكن كلمة "اقتصاد" ليس لها معنى أو معان اصطلاحية في المجتمعات العربية طيلة القرون التي سبقت عصر الثورة الصناعية وتطور العلوم الحديثة. وأئمة الأمة السابقون لم يسموا القضايا الفقهية المتعلقة بالاقتصاد (حسب التعبير المعاصر) الموجودة في عهدهم، لم يسموها الاقتصاد (أو الاقتصاد الإسلامي). ولذا فإنه ينبغي فهم المعنى الاصطلاحي لكلمة "اقتصاد" من البيئة التي نبت فيها المصطلح، وهذه قضية غفل عنها أكثرية من يكتبون في الاقتصاد الإسلامي، رغم أنها جوهرية. وهذه قضية سأتحدث عنها بشيء من التفصيل في مقالات مستقبلية ـ إن شاء الله.
الذين يرون أن علم الاقتصاد يهتم ببحث أحكام المعاملات الاقتصادية أي أحكام ما ينظم كسب المال وإنفاقه وأوجه تنميته، مخطئون خطأ صريحا، لأن أحكام المعاملات الاقتصادية (في التشريعات الوضعية) لا تبحث في علم الاقتصاد ولكن في القانون، فيما للسلطة علاقة به، كالقانون المدني والقانون التجاري وقانون العمل وغيرها، بغض النظر عن كونها تسن بمعزل عن الشريعة أو لا. وأما المسائل التي لها علاقة بآداب السلوك الفردي وأحكامه فهي لا تدرس أصلا في علم الاقتصاد، ويمكن بحثها في الفقه ويمكن إدراجها ضمن علم مستقل يعنى بالآداب والأخلاق، بحيث تدخل فيه آداب أعمال متنوعة كتناول الطعام والسفر والنوم واللباس والتوسط في الإنفاق وما إلى ذلك.
لو كان علم الاقتصاد يبحث في أحكام وتشريعات المعاملات المتعلقة بالمال والاقتصاد، فإنه حينئذ لغو لا فائدة منه أصلا، لوجود الفقه و/أو القانون وكلاهما أسبق من علم الاقتصاد.
من أسباب الوقوع في تسميتها بتسمية غير موفقة (الاقتصاد الإسلامي) ضعف اهتمام الكتب الفقهية العامة المؤلفة في القرون السابقة (كالمغني والروض المربع وبدائع الصنائع) ببعض المباحث المتعلقة بالمال، كأحكام الكسب والإنفاق والحسبة والمال العام.
ومن الأسباب التي أراها، اقتصار بعض أساتذة الفقه في كليات الشريعة على تدريس ما في الكتب القديمة. وزيادة في الإيضاح، أذكر المثال التالي من دراستي في كلية الشريعة في الرياض قبل سنين. كان فقه البيع (وما يلحق به) يدرس في السنة الثانية، وكان المنهج ينص على أنه ينبغي على أستاذ المادة أن يتعرض إلى أحكام القضايا المستجدة في عالم التجارة والمال، ولكن هذا لم يحدث، فقد قصر الأستاذ تدريسه على الموضوعات الواردة في كتاب الروض المربع، وهو كتاب مؤلف منذ مئات السنين. كما أنه لم يتعرض إلى أحكام موضوعات اقتصادية تناولتها كتب قديمة، ولكنها لم تدرج في هذا الكتاب وغيره من كتب الفقه العامة. ويبدو لي أن السبب ضعف حصيلة الأستاذ في هذه المسائل. ومن باب الموضوعية، لم يكن كل الأساتذة هكذا، فعلى سبيل المثال، حضرت السنة التمهيدية للماجستير في الفقه والأصول، في كلية الشريعة في الرياض قبل سنين، وقد درسنا فيها الشيخ عبد الله بن غديان، عضو هيئة كبار العلماء، فقه المعاملات، ومن بينها أحكام العمليات البنكية، وكان يستند في شرح ماهية هذه العمليات إلى كتب قانونية في القانون التجاري.
يمكننا أن نفهم الاعتراض على التسمية بطريقة أخرى. لو استمر زمام الحضارة والتقدم الاقتصادي في يد المسلمين (بدلا من الضعف والتخلف الحضاري الذي أصاب المسلمين بعد بضعة قرون من ظهور الإسلام) مما يعني بالتبع، استمرار الاجتهاد مفتوحا في الفقه لمواكبة المستجدات والتطورات الحضارية والمادية، أو ما سماه أسلافنا بالنوازل، لكانت البحوث والمناقشات التي أطلق عليها بعض الفقهاء المعاصرين مسمى الاقتصاد الإسلامي من ضمن مؤلفات الفقه، ولما وضعت تسمية الاقتصاد الإسلامي أصلا لهذا النوع. وهذه النتيجة لابد منها، طالما أننا نؤمن بأن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان. وإذا قال قائل إن التسمية نتيجة أن ذلك لم يقع، أعني استمرار زمام الحضارة في يد المسلمين، قلنا له، لا اعتبار لهذا، وإلا لكانت صلاحية الشريعة تلك متوقفة على ريادة المسلمين الحضارية، وهذا غير صحيح، بل القصور من أساتذة الشريعة فيما ألفوه ودرسوه في كليات الشريعة. من جهة أخرى، من الممكن أن تضاف كلمة إسلامي إلى الفقه لا الاقتصاد.
ومما يبين طرفا من ذلك القصور، أن الفقه تأثر بالمناقشات ذات الطبيعة الفقهية، والتي أنتجها ثلة من المؤلفين فيما سمي بالاقتصاد الإسلامي، كما تأثر بالمناقشات التي أثارها القانون في الفرع التجاري خاصة، ودفعت تلك المناقشات فقهاء وطلاب علم في التخصص الفقهي لدراسة قضايا مالية واقتصادية معاصرة فقهيا، بدلا من التوقف عند مناقشة المسائل التي كتب عنها أسلافنا ـ رحمهم الله ـ كثيرا. وقد اضطرتهم تلك الدراسة إلى التعرف على كثير مما يجري في عالم المال والاقتصاد، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
<!-- body -->