الصكوك المحلية و"سمننا في دقيقنا"
د. عبد العزيز الغدير
يتابع خبراء المال حركة المال العالمية من لحظة صدورها حتى لحظة تحولها إلى رؤوس أموال منتجة أو حتى لحظة دخولها في أسواق المال لتولد المال من المال أو توجهها لأي مكان آخر، وذلك بهدف توجيهها إلى حيث يريدون لتنمي اقتصاديات بلدانهم، أو بهدف السيطرة عليها وعلى حركتها لكيلا تنمي اقتصاديات الدول التي لا يحبون، أو بهدف استلابها لكي تعود لقواعدها سالمة دون أي أثر إيجابي على من ذهبت إليه رغم ما قدم لبلدانهم من سلع أو خدمات .
متابعة المال وتوجيهه والسيطرة عليه وإعادته أو استلابه عملية معقدة وليست بالسهلة, وتستدعي أدوات كثيرة ومتعددة متداخلة ومتشابكة بشكل لا يستطيع الكثير من المختصين فك رموزها إلا الراسخين في علم المال والاقتصاد بل والسياسة أيضا، وبالتالي فليس المجال هنا لفك هذه الطلاسم والتداخلات التي تتضارب الآراء حولها لدى الكثير من النخبة, فضلا عن العامة من الناس فيما إذا كانت عمليات تَحرُك المال تتم من خلال مؤامرات حيكت بليل أو من خلال خطط استراتيجية آتت ثمارها لصالح من خطط, بينما لعب الآخرون بها دور الضحية وهم غافلون، أو أنها تتم من خلال حركة اقتصادية عفوية نتيجة هذا وذاك وأسباب أخرى تحدث هنا وهناك .
ولكن بكل تأكيد أن كل من يملك مالا يصبح أمام معاناة تشتد عليه كلما كبر هذا المال، وهذه المعاناة تتلخص في همين أساسيين، الأول: كيفية المحافظة على هذا المال من الضياع ومن التضخم ؟! والثاني: كيف ينمي هذا المال ليزداد بمرور الزمن؟!، وهذان الهمان لا يقتصران على الأفراد بل يشملان الكل بما في ذلك الدول، والمؤسسات الحكومية، والمنشآت الخاصة، والمؤسسات الخيرية خصوصا الوقفية منها التي تحبس الأصول لتصرف من الريع.
خبراء المال يلعبون على هذين الهمين مدعومين بمستشارين مختصين بعلم النفس وعلم الاجتماع الذين يعرفون كوامن النفس البشرية من بخل وطموح وطمع وجشع، كما يعرفون كيف يتحرك الفرد ضمن الجموع، وكيف يتم تحريك الجموع حتى تصبح كالقطعان تتدافع في أي اتجاه يريدون دون أن تستخدم هذه الجموع عقولها، وهو ما يجعلنا دائما نسمع كلمة شراء أو بيع القطيع، وهي عبارة تزعجنا لأنها تقول إن عقولنا في إجازة، فأصبحنا نتحرك بعواطفنا أو نتحرك عندما نرى الآخرين يتحركون دون معرفة سبب هذه الحركة .
الأموال في كل بلد تتركز لدى الحكومة ومؤسساتها ولدى الشعوب أفرادا ومؤسسات، ولذلك كل من يريد تمويلا، إما أن يذهب للحكومة من خلال مؤسساتها التمويلية أو للبنوك التي تكتنز إيداعات الشعوب لتقرضها حسب قواعد وأنظمة ترسمها وتراقب تنفيذها البنوك المركزية، أو يذهب إلى أسواق المال ليطرح الأسهم أو السندات أو الصناديق الاستثمارية بعد موافقة الهيئات المنظمة لهذه الأسواق للاكتتاب العام أو الخاص الذي يشارك به معظم أو قلة من المواطنين والمقيمين حسب نوع الطرح وجاذبيته ووضع الأسواق أيام الطرح. |
وكل متخصص في عالم المال وحركته يعرف أن العالم تم تهيئته خلال السنوات الخمس الماضية لعملية سلب مالية لم يشهد لها التاريخ مثيلا، عملية سلب مدعومة بالعولمة الاتصالية (الفضائيات والإنترنت، الاتصالات المتنقلة)، حيث تم سلب أموال معظم الحكومات والشعوب ضربة واحدة بعد المرور بمراحل متعددة شعر بها الجميع أنه أصبح غنيا يملك الأصول المالية ( أسهم، سندات، مشتقات ) التي لا يأتيها الفقر من فوقها أو من تحتها أو من أي مكان ، والمتتبع لحركة المال يدرك أن هناك مكانا واحدا اتجهت له معظم أموال العالم حيث تبخرت هناك، وهذا المكان كان المكان الأكبر حجما، والأكثر أمنا من وجهة نظر الكثير، على اعتبار أنه يشكل أكبر وعاء استثماري آمن يستطيع أن يستوعب المليارات التي يريد لها مالكوها أن تنمو دون أن تضيع.
بعد هذه التجربة المريرة وتداعياتها وإفرازاتها الخطيرة التي عمت العالم أجمع، والتي نحمد الله تعالى أن جعل أثرها علينا معقولا نتيجة ما حبانا الله به من إيرادات كبيرة عند ارتفاع أسعار النفط، ونتيجة تحفظ وحذر حكومتنا الرشيدة ممثلة في وزارة المالية ومؤسساتها في التصرف بالفوائض، أقول بعد هذه التجربة علينا أن نتجه حكومة وأفرادا إلى تنمية أموالنا والمحافظة عليها بالاستثمار الداخلي بشكل أكثر توسعا، وذلك من خلال تفعيل أدوات تمويل المشاريع التنموية العملاقة ذات الأثر المباشر على جودة حياة المواطن والمقيم على هذه الأرض الطيبة، مثل مشاريع الطاقة والنقل والإسكان والزراعة والصناعة إلى غير ذلك من المشاريع المهمة والحيوية والداعمة للاقتصاد والمولدة للفرص الوظيفية والفرص الاستثمارية.
ومن أهم هذه الأدوات التمويلية التي يجب أن تُفعل كقناة استثمارية هي الصكوك (السندات المهيكلة وفق أحكام الشريعة الإسلامية) والتي تشكل أداة تمويل كبيرة قادرة على تمويل المشاريع المليارية والتريليونية، كما تشكل في الوقت نفسه قناة استثمارية آمنة وكبيرة تجعل معظم سمننا في دقيقنا، بدل أن يصب معظمه في دقيق الآخرين، حيث يتسرب إلى غير رجعة كما هو حال التريليونات التي فقدتها الكثير من الدول عندما وضعت هذا السمن في دقيق أسواق أمريكا التي استطاعت أن تمتع مواطنيها به من ناحية، وتسربه إلى حيث لا يعلم الجميع من ناحية أخرى، وكلنا آمل وتفاؤل بما أعلنه رئيس هيئة سوق المال هذا الأسبوع بقوله: "إن هيئة سوق المال تعمل على تطوير سوق السندات والصكوك، لتوسيع مجال تمويل الشركات عن طريق السندات والصكوك، وما قاله "إنه يتوقع تداولها خلال العام الجاري"، وكلنا آمل وثقة أيضا أن الكتل المالية الحكومية ستكون المحرك الأكبر لهذه السوق لكي تنطلق فيما بعد ذاتيا دون الحاجة إلى دعم إلا النزر القليل.
* نقلا عن صحيفة "الإقتصادية" السعودية. |