|
#1
|
|||
|
|||
كيف يكتسب العز يا أمي
في زقاق صغير يؤدي إلى سوق الجامع في مدينة جدة القديمة خرجت الجنازة في هدوء.. وصلى على من فيها .. دفن في مقابر الأسد.. رجع كلا إلى بيته والحزن يطبق أنفاسه عليهم جميعا.. فقد كان مثال الاستقامة والوسامة والرجولة والحنان.. شاب كافح وتزوج قبل ستة أشهر فقط.. امرأته تحمل في أحشائها الجنين الذي لن يراه أباه .. انتهت فترة الحمل وقدم المولود وأطلق عليه اسم أبيه .. فأصبح اسمه مكررا في الحارة .. تقدم لوالدة الطفل معظم شباب الحارة .. ولكنها كانت تأبى وتعتذر.. قررت أن تبقى لابنها.. فقط اشتغلت في البيوت الفاخرة في حارة الشام وعند الأغنياء وقت المناسبات تغسل فوق الطشت يوميا .. تكوي بمكوى الفحم الملابس يوميا .. تطبخ يوميا .. ما تكسبه تنفقه على ابنها.. تقيم كل شهر سهرة للنساء فيتسامرون في بيتها النظيف المتواضع.. تقرأ لهن ( أبو زيد الهلالي, وعنترة بن شداد, وألف ليلة وليلة ) .. أحبها الجميع كانت خادمة بأجر.. لكنها كريمة عزيزة .. تظهر عفافها ورقتها وصرامتها .. وجدها .. سيدة ولا كل الرجال أول أيام المدرسة ذهبت إلى مدرسة الفلاح ( المجتمع ) لتسجيل ابنها .. قوبلت من مدير المدرسة – المربي الفاضل – بترحاب شديد ولطف ومحبة .. فقد أصبحت معروفة لدى الجميع .. لا يستغنى عنها .. في كل المناسبات أفراحا وأتراحا .. عند الانصراف تقف في ركن صغير بجوار حوش البقر .. المؤدي إلى المدرسة .. تنتظر ابنها لتصحبه إلى البيت.. كل همها وحلمها ينصب على هذا الصغير .. اليتيم الأنيق. تقول له : غدا سوف تسمع عنك كل جدة .. سوف تكون وتكون .. سيسير موظوفك خلفك .. سوف يكون لك ملتقى يزورك فيه الوجهاء .. سوف تكون العاقل الراشد.. واليد التي تعطي.. والمثال الأخلاقي لرجال جدة كلها . ألا ترى الشيخ فلان والشيخ فلان .. سوف تكون أحسن منهم وأعظم منهم .. ستكون وستكون .. تغرس فيه أحلاما وأماني مستقبل جيل .. لطفولة يتيمة وبيت عفى عليه الزمن . فالبيارة تنزف من الدهاليز .. والسقلى يأتي يوما ويتأخر أياما .. تحمل تنكة الماء بنفسها .. لتضعها في الزير المركون في أطراف (بيت الماء ) سعيدة, قوية, متفائلة محبوبة كريمة رغم فقرها وعوزها. أوقاتها منضبطة .. صرفها محسوب .. كل شيء بانتظام .. يومان في الأسبوع ( إلى النورية ) تشتري اللحمة من الجزار ( الشلبي ) تشتري الدجاج من( المتبولي ) والفول من عبد القادر أمير .. والقشطة من ( الأفندي ) والعيش من ( القاروب ) والفاكهة من (السروي) والعطارة من ( باديب ) والجبنة والزيتون من ( خواجة يني ) أو ( الخضري ) والمطبق من أبو (عوف ) وتصلح الأتريك عند ( عمر نصار ) .. وتنجد المساند عند ( مصطفى سروجي ) وتحلق شعره عند ( أبو سداح ) .. تخيط ثياب ابنها بنفسها إلا في العيد فالعم ( عمر حلمي ) يقوم بذلك . قال لها أحدهم مداعبا : ابنك دائما مبتسم .. قالت : قول ما شاء الله تم تمتمت الله أكبر .. ومسحت على رأسه أعيذك بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة .. وقرأت المعوذتين .. وكثرت من لاحول ولا قوة إلا بالله .. وآثرت ألا تمر من أمام دكانه مرة أخرى دائمة الابتسامة والبهجة .. لم يرى أحد دموعها إلا عندما أستيقظ ابنها فوجدها في صلاة الليل تذرف الدمع ساجدة .. قالت له بعد أن رأى ما رأى لا تجزع فإني مع حبيبي وسندي إني مع الله .. وأخذت مروحة اليد المدنية لتخفف عنه حرارة الغرفة .. ويهدأ لينام . تسمح لابنها بمشاركة اقرانه في برحة الحارة اللعب ( بالمكر ) و ( الكبوش ) و ( الكرة الشراب ) و ( البراجو ) تراقبه من خلف الشيش وهي تدعوا له ( الله يحفظك الله يرعاك ) وترفع يديها وتقول اللهم انك كريم حنان .. لا تتوفاني إلا وقد جعلته ملأ السمع والبصر .. اللهم انه وحيدي اليتيم فعامله بما أمرتنا أن نتعامل به فاجعلني وإياه عباد رحمة ولا تجعلنا عبيد ابتلاء .. يا كريم , من أناقتها وعفتها يحسبها الكثير أنها لا تحتاج .. أرسل لها أحد أغنياء الحارة في رمضان نقود لمساعدتها فردتها وقالت : نحن من أسرة لا تقبل الزكاة ولكننا نقبل الهدية .. في إجازات المدرسة .. تذهب إلى النجار ( المشورة ) تتمنى عليه أن يعلمه وأن يبقيه معه حتى يشغل وقته ويستفيد بنصائحه في السنة الثانية تذهب به إلى دكان الصيرفي في الخاسكيه وتتمنى عليه أ تبقيه للعمل لديه حفاظا على وقته لا تطلب لابنها أجرا .. ولا تشترط على أحد مكافأته .. فالكل يرعى الصغير واليتيم حبا وكرامة وعطفا , تمر السنون على هذا اليتيم .. من محل إلى آخر .. يستمع ويرى ويخدم .. يحضر الشاي من القهوة المجاورة .. ويكنس المحل .. وينظف الفوانيس .. ويوصل المقاضي .. ويعود إلى أمه . تحبس دموعها التي تحجرت في مقلتيها .. كبقايا شمعة أنطفئت فتجمدت دموعها عند نهايتها .. تسئل عنه كيف وكيف .. تلقنه كل لحظة معنى الصبر والكفاح داعمة رأيها بشيء من القرآن تارة .. حتى أنه عرف أسماء يونس ويوسف وأيوب عليهم السلام وقصصهم والنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وكفاحه وصحابته وصبرهم .. يسأل وتجيبه . يستمع إلى محاضرات مسجد عكاش من الواعظين فيه ما يثري فكره وأحلامه .. تأخذ ما تبقى من المجلات والجرائد من مكتبة الأصفهاني ليقرأ ابنها .. وانتقل إلى المدرسة الكبيرة حتى آخر سنة وقد التهم علمها وأصبح رجلا له تقديره واحترامه. أراد أن يعمل فالتحق بالرجل الوقور في مكتبة كاتب حسابات أمين صندوق.. وهكذا تدرج وأصبح الكل في الكل وهو في السادسة عشر من عمره. أتى أمه يوما حزينا قائلا: لقد ماتت زوجة عمي ( يعني رئيسه في العمل ) ولقد كان يحبها جدا.. ماتت بدون مقدمات .. ظهرت عليها الصفاري ( الصفراء ) وأخذت الدواء من قصبة الهنود ولكن الأجل داهمها . تعرفين يا أمي أنه لا أولاد عنده فقد كانت له أما وأختا وابنة وزوجة وصديقة. لقد حزن عليها كثيرا وأنا حزنت كما لم أحزن من قبل.. قالت له : سيعوضه الله .. مضى عام سأله العم قال: من خالك ؟ قال : لا خال لي .. من عمك ؟ أخو أبيك .. قال لا عم لي .. قال : إذا من المسؤول عنك ؟ قال : أمي .. فهي كل شيء, وحكي له الليالي والأيام وأفاض و أفاض.. قال العم اشتقت إلى أكلة بيتيه.. فأخبر أمك بأنني مدعوا عندك للعشاء ذهب صاحبنا إلى بيت اليتيم فوجد ترتيبا ونظافة وأناقة وبساطة في البيت رغم الدخل المحدود ولكنه متفوق برائحة الحب والعناية والاهتمام.. من خلف تلك الصفة الصغيرة استمتعت إلى كلمات الثناء لابنها .. ومباركة الرجل لأمه وكفاحها .. غادر المكان مودعا من بيت عزيز إلى بيته الذي يكتسي بكل أنواع الراحة من أثاث وخدم .. وليس فيه عبق ذلك البيت المتواضع في العيدروس شيخ الحارة ( الشيخ عبد الصمد ) توسط فخطبها وتزوجت من عمه ( رئيسه في العمل ) أنجبت منه أبناء ليكونوا أخوة له أصبح الحلم حقيقة وازدانت جدة .. بأم أنجبت أغلى الرجال .. لقد وضعت ذاتها وإمكاناتها لتحقيق هدفها لابنها اليتيم .. فأكرمها الله بعز ما كان لظنها أن يبلغه.. جلس بين يديها يملأ عينيه بوجه تلالا نورا وضياء .. سألها : كيف يكتسب العز يا أمي ؟ نظرت إليه بحب وإعجاب نظرة لا يعرفها إلا من كان محبا ومحبوبا.. يابني .. دائرة الافلاك لا تديم نعمة .. ولا تقيم نقمة .. لقد وضع الله في كل قلب ما أشغله.. فاشتغل بذكر الله يطمئن قلبك .. وأكثر من الصلاة على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم فإنها سكن النفوس وقربة للمؤمنين ودخولا لرحمة الله.. وقرأ .. الا بذكر الله تطمئن القلوب واقرأ .. وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم واقرأ .. وصلوات الرسول إلا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمة واعلم إن أول الحكمة الشكر .. واقرأ .. ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله وعليك بالتقوى والصبر .. واقرأ .. أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين وأعفوا عمن ظلمك, وصل من قطعك وأعط من حرمك واقرأ .. فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون يابني .. إذا أخطأت اعترف بخطئك .. فإنه من يتكبر يطرد .. ومن يستغفر يغفر له .. فإن الشيطان استكبر فطرد وآدم استغفر فغفر له يابني .. كن مع الصادقين .. وأحسن الظن بالله .. فإن من لم ينفعه ظنه لا ينفعه يقينه يابني .. أصلح سرك وعلانيتك .. إنما الأعمال بالنيات .. ونية المرء خير من عمله يابني .. الحلال بين والحرام بين إنما يتقبل الله من المتقين .. فكثير المال عقاب وقليله حساب .. والأكثرون هم المقلون يوم القيامة .. إلا من قال هكذا وهكذا.. يابني .. لا يهلك جمال النعمة عن جلال الوهاب .. النعمة كائن حي .. فإذا أحببتها في وطنها .. أحبتك وجعلتك وطننا لها .. ومن حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه .. رزقك الله الخشوع والطاعة والقبول.. وقوة الإيمان وحلاوته وصلي على السراج المنير المصطفى صلى الله عليه وسلم العز ,, الإنتساب إلى الله !! بقلم / أحمد حسن فتيحي ونقلته لكم
|
#2
|
|||
|
|||
صلى الله عليه وسلم وجزاك الله خيرا على الموضوع الجميل أنا سبق أن قرأته وتمنيت أن أنقله ليقرءه غيري فشكرا.
|
#3
|
|||
|
|||
فعلا الموضوع كان جميل ورائع واشكرك على تعليقك واهتمامك
|
#4
|
|||
|
|||
جزاك الله خير
__________________
|
#5
|
|||
|
|||
لا حرمني الله من كرم مرورك
كل الود والاحترام |
#6
|
|||
|
|||
شكرا على مروركم
نورتو الصفحة |
#7
|
||||
|
||||
مشكور اخوي كان موضوعك رائع
|
#8
|
|||
|
|||
تسلم الايادي ع الموضوع الحلو
|
#9
|
||||
|
||||
رائع يا مخاوي الليل ما ذكرت
واشكرك على هذا الموضوع الجميل |
#10
|
||||
|
||||
موضوع ممتع وشيق
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
«المظالم» يبرئ تاجرا من الغش | مخاوي الليل | الصحافة اليوم | 0 | 23-03-2009 09:09 AM |
فوائد الغش في الاختبار | دموع تبتسم | طرائف والألغاز والفرفشة | 5 | 13-08-2007 04:04 PM |
الغش | الراااايق | ركن الذهبية العام | 6 | 10-06-2007 08:58 AM |
فوائد الغش | سندباد | غرائب حوادث و عجائب | 8 | 24-12-2006 08:27 PM |
جحافل اللصوص يعتدون على فرقة الغش التجاري بجدة | sami haroon | خاص بمدينة جده | 1 | 21-04-2006 06:03 PM |