#1
|
|||
|
|||
أول الفتنة معرفة الاسم
أول الفتنة معرفة الاسم
كلُّ شيءٍ له رمز، فالمعاني والأفكار لها رموز هي اللغة، وتنظيم حركة المرور لها رموز هي الإشارات الضوئية واللوحات الإرشادية، والعادات والتقاليد لها رموزها كطريقة السلام والزي والطقوس والإيماءات التي تنبع من طبيعة النظام الاجتماعي – الثقافي، وهكذا. ووظيفة الرمز هي مساعدتنا على التواصل وعلى اختزال خطوات كثيرة يراد منها تحقيق غايات معينة لا تخرج عن كونها غايات ذات طابع إنساني ثقافي. والعلم الذي يدرس الرموز يسمى بعلم العلامات أو السيمولوجيا. وهو يفترض أن الثقافة البشرية تحمل دلالة. أقصد أن كل سلوك ثقافي يقوم به المجتمع وأفراده هو ذو معنى، ومن أجل ذلك فإنه يستخدم الرموز لحفظ المعاني ولإيصالها للآخرين. يعرّف كثير من علماء الإنثروبولوجيا الإنسانَ، تبعاً لقدرته على خلق واستخدام الرموز، بأنه حيوان رمزي. وماهية الرمز تكمن في حلوله محل المعنى المراد تداوله، وليس للحلول محل الشيء الذي يكون المعنى صورةً عقلية له أو نسخة ذهنية منه. فالمعرفة البشرية العادية تقوم على المطابقة بين الشيء وبين تصورنا عنه، فإذا اختلّت هذه المطابقة فإننا نحكم على «القول» بأنه خاطئ أو كاذب. ولكننا في «القول» ندخل في إطار المعرفة اللغوية (الرمزية) التي يرى بعض فلاسفة اللغة والعقل أنها تسبق المعرفة العامة. فلكي أعرف الشيء لا بد أن أعرف اسمه، والأسماء أول المعرفة !، أو كما قال النفري «أول الفتنة معرفة الاسم». وبما أن المعرفة الإنسانية الناضجة تتعامل مع الأفكار التي تنشئها عن الأشياء وعن العلاقات الكائنة بينها وليس عن الأشياء ذاتها فإنها – أي المعرفة البشرية – تنمو بالضرورة في إطار اللغة، أي بمعونة الرمز؛ لأن الأفكار لا يمكن تداولها وتوصيلها إلا بوسيلة موضوعية وهي اللغة أو ما يشاكلها من تقنيات الاتصال البشري. إننا نكون هنا بإزاء ثلاثة أقطاب للمعرفة الرمزية: الفكرة – والشيء المفكَّر فيه – والرمز الذي يعبر عن هذه العلاقة الثنائية. ويمكن ملاحظة أن الرمز (اللغة) هو الشكل أو الصورة التي تتيح إمكانية التطابق بين الفكرة والشيء. لدرجة أننا لا نعود نستطيع أن نفكر أو ندرك بدون الرموز، وبدون استخدام اللغة. وأنا أشدد على اللغة لكونها أكثر الرموز تعقيداً ودقة، وإلا فإنّ الرموز غير اللغوية تقوم بنفس المهمة، ألا وهي إتاحة الفرصة لتطابق المعنى أو الفكرة مع الشيء. فبدون «الإشارة الضوئية الحمراء - بصفتها رمزاً» لن يستطيع قائد المركبة أن يربط بين المعنى (التوقف) وبين الشيء (اللون الأحمر). وإذا أعدنا النظر في الأقطاب الثلاثة للمعرفة الرمزية لرأينا أن القطب الثاني (الشيء المفكر فيه) يكون في الغالب ذا طبيعة حسية أو مادية، وبما أن نقل ومراكمة المعرفة البشرية يعتمد على الذاكرة التي تنشط في ظل غياب المحسوسات والأحداث المباشرة؛ فإن وظيفة الذاكرة هي حفظ العلاقة التي تربط بين المعنى والشيء الذي أصبح غائباً عن الإدراك الحسي المباشر، وبعبارة أخرى أقول : إن وظيفة الذاكرة هي حفظ الرمز بوصفه يجسد هذه العلاقة. إن الرمز لا يعمل إلا حينما يغيب الشيء، أو إنه حينما يعمل فإنه يتم تجاهل الشيء حتى ولو عاد ليحضر أمام الإدراك الحسي مرة أخرى، وهكذا تتم عملية التواصل المعرفي بعيداً عن الشيء، وهكذا أيضاً يحجب الرمزُ الشيءَ بصورة مزدوجة؛ الأولى لما اختزل الشيء إلى ذاته، والأخرى لما حلّ محل الشيء بشكل دائم. ولنا أن نقول إن الذاكرة هي السياق الطبيعي الذي تعمل فيه الرموز والذي يسمح لها بالحلول محل الأشياء. وكلّما تجذّر الرمز في الذاكرة الفردية والشعبية أصبح أكثر قوة ومتانة وأقرب إلى أن يكونَ هو الشيء ذاته وليس رمزاً له. بل ويكونُ أكثر حجباً للشيء من غيره من الرموز الأخرى التي لم تحظَ بقداسةٍ في المخيال الشعبي. إن المعرفة البشرية معرفة رمزية إذن. يعرّف علماء البلاغة الكلاسيكيون المجاز بأنه انحراف الكلمة عن معناها الأصلي إلى معنى آخر لوجود قرينة ما. أو كما يقول المفكر اللبناني علي حرب فإن المجاز هو الذي يمنع تطابق الكلمات مع الأشياء أي إنه يقيم فجوة بين الدال والمدلول. وهذا التعريف يفترض أن لكل كلمةٍ معنًى وحيداً أصلياً تمت إزاحته بمرور الزمن أو لأسباب بيانية وفنية إلى معنى آخر هو المعنى المجازي الذي يحجب المعنى الحقيقي للكلمة. ولكن الثورة اللسانية المعاصرة ركزت على أن اللغة بطبيعتها هي مجازية. وقد ذكرتُ في أول المقال أن ماهية الرمز هي الحلول محل الشيء والفكرة التي نكونها عنه. إن الفجوة التي يقيمها الرمز هنا تكون بين الشيء وفكرتنا عنه. فالرمز يستحضر الفكرة دون الشيء، ومن ثمَّ يحدث الالتباس لغياب المرجعية الواقعية. فالفكرة تدين بحياتها للرمز وتصبح تابعة له، تتقلب مع تقلباته وتضطرب مع اضطرابه وتختفي مع اختفائه وتظهر مع ظهوره. فإذا غابت الكلمة غاب كل شيءٍ، أو كما يقول الشاعر الألماني ستيفان جورج «إنْ تنكسر الكلمة لا يوجد شيء». بقي أن نقول إنَّ الرمز والترميز هو عملية اعتباطية، أي إنه كرمز لا يحتوي على علاقة منطقية أو طبيعية مع الشيء أو مع الفكرة التي نكوِّنها عن هذا الشيء. فكلمة «شجرة» لا علاقة لها بالشجرة ولا بفكرتنا عنها وهي مفهوم الشجرية. وهذا يؤكد أن الرمز والمعرفة بصورة عامة هي إنسانية بحتة لأنها معرفة اعتباطية أو وضعية أو اصطلاحية أو اتفاقية؛ اتفقت جماعة من البشر عليها ونقلوا اتفاقهم إلى الأجيال اللاحقة ولكن على صورة حق مطلق وليس على صورة اتفاق. |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
ديكورات جديدة ورائعة لغرفة المعيشة | برنس حمدان | العناية و الجمال و الماكياج | 1 | 11-02-2014 04:58 PM |
حبة دواء رقمية تمكّن الأطباء من معرفة مدى استجابة العلاج | همسة | علوم وتكنولوجيا | 0 | 26-11-2013 09:36 PM |
كيف تحدد حجم التلفاز المناسب لغرفة معيشتك؟ | همسة | علوم وتكنولوجيا | 0 | 25-11-2013 04:08 PM |
تغير الاسم | Bello | الطلبات | 1 | 14-01-2010 12:38 PM |
سعوديه تحول تاكسي لغرفة نوم | توتة هانم | ركن الذهبية العام | 6 | 08-05-2007 07:23 PM |