الصناعات البتروكيماوية.. ضخامةٌ في الإمكانات وضعف في التنسيقِ!
الصناعات البتروكيماوية.. ضخامةٌ في الإمكانات وضعف في التنسيقِ!
د. عبد العزيز بن حمد القاعد
يصعُب على المرء المراقب للأحداث الاقتصادية الساخنة على الساحتين العربية والدولية أن يقف موقف المتفرج مما يجري دون إبداء وجهة نظره فيما يتعلق بالازدواجية في السياسات الاقتصادية الخليجية والمتمثلة في الصناعات الحيوية لهذه الدول, التي يُعوِل عليها بعد الله أبناء هذه المنطقة لتكون رافداً رئيسياً من روافد التنمية الاقتصادية في هذه المساحة الجغرافية المهمة من العالم. غير أنه ليس من الضروري تناول قناعات ومبررات الدول التي اعتمدت على ميزتها النسبية في تصدير المواد الأولية والمنتجات الزراعية كالولايات المتحدة ، كندا، وأستراليا، إضافة إلى بعض الدول النامية مثل: المكسيك وماليزيا, وتجييش الإمكانات كمُحرك للنمو الاقتصادي من أجل إحداث التغييرات الهيكلية المطلوبة لحصول التنمية. وفي هذا السياق يتبين لنا أن معظم البلدان النامية انكبت وبشكل جدي على الخيار الصناعي دون الزراعي إيماناً منها بأن الأجور السائدة في هذا القطاع أعلى مقارنة بالقطاع الزراعي, حيث تُستخدم التقنية الحديثة من آلات ومعدات لمساعدة الأيدي العاملة على رفع إنتاجيتها، وهذا يُوضح مدى الارتباط الإيجابي بين التصنيع ومعدلات الدخول العالية للعمالة. ومن الجدير بالذكر أن الاعتقاد السائد في الدول النامية هو أن التنمية الاقتصادية لا بد لها من المرور عبر بوابة التصنيع، ولا شك أن هذه الطموحات تتطلب وفرة في الموارد الاقتصادية لكل بلد، وبالتأكيد قدوتهم في ذلك دول غرب أوروبا والولايات المتحدة واليابان، إلا أن هناك بلدانا أوروبية أخرى كالدنمارك ونيوزيلندا دخلت التصنيع من البوابة الزراعية، وعليه فحرية الاختيار بين الاستراتيجيتين متروك لكل بلد وإمكاناته في استخدام موارده الاقتصادية المتاحة. الاعتقاد الشائع، وهو واقعنا بطبيعة الحال، أن الجهود الخليجية للإمساك بزمام التصنيع, خاصةً المرتبط منها بالنفط ستحقق فوائد اقتصادية جمة، لسبب جلي هو أن تجارب البلدان المتقدمة تصب في مصلحة التصنيع كخيار استراتيجي ذي قيمة عالية وبالذات في توظيف الموارد المتاحة كون الطلب على المواد الأولية ومنها النفط يعد قليل المرونة ومن ثم مردوده المادي غير مُستقر على المدى الطويل نتيجةً لتقلبات الأسعار. في أدبيات اقتصاد التنمية ما يُسمى نظرية "الدفعة القوية"، التي تتمحور حول أهمية الصناعة كمحفز للتنمية بما يمتلكه هذا القطاع من وفورات كبيرة قد لا تتوافر لغيره من القطاعات الاقتصادية الأخرى، وبالدور المهم الذي يقوم به في رفع إنتاجية العمالة الضعيفة في القطاع الزراعي، ناهيك عن توق البلدان النامية وبِفُرط للوصول الى الاكتفاء الذاتي من مختلف السلع. وعلى الرغم من أهمية المرحلة التصنيعية ومبرراتها القوية إلا أن هذا الشوق الجارف لن يتحقق إلا بوجود طلب محلي عال يساعد الصناعة المحلية على تحقيق وفورات الحجم الكبير, إضافةً إلى المهارات البشرية والإمكانات المتاحة القادرة على المساعدة على خفض التكاليف مع وجود رأس المال المادي وبذل الجهود الممكنة لتوفيره بشتى الطرق والوسائل.
من حسن الطالع أن الدول الخليجية لديها ميزة قد لا تتوافر لكثير من الدول من حيث وفرة موارد الطاقة خاصة النفطية منها، ولذا فهي في موقع يسمح لها بالتأثير في أسواق الطاقة بما فيها أسواق المنتجات البتروكيماوية، ففي المملكة على سبيل المثال تُمثل الصناعات البتروكيماوية تقريبا ضعف الصناعات القائمة. المُلاحظ وبعد التراجعات الحادة في أسعار المنتجات البتروكيماوية أصيبت هذه الصناعة بإحباطات شديدة خشية استمرار الركود العالمي جراء الأزمة المالية العالمية الذي كان له الوقع الشديد على أسواق هذه المنتجات. لا أحد يشك في أن كل صناعة تواجه تحديات متنوعة من أبرزها قدرتها على التكيف في ظل المتغيرات الدولية الحالية من ناحية الطلب العالمي والذي شهد تراجعات حادة العام الفارط، وكذلك الاستمرار في تمويل التوسع في المشاريع الحالية والمستقبلية. بالنسبة إلى التحدي الأول ففي اعتقادي المتواضع أن الوضع الراهن مرحلي ولن يستمر طويلاً، فانخفاض الطلب متوقع في أي وقت وجراء أي أزمة، وبناء على معطيات السوق والأوضاع المالية العالمية فمن المتوقع أن تتعافى هذه السوق في غضون مدة قد لا تتجاوز وسط عام 2010 ـ بإذن الله. الدور الذي ستلعبه الدول الراعية لهذه الصناعات سيسهم وبشكل كبير في التخفيف من هذا الأثر، وذلك من خلال برامج دعم للصادرات ولو بشكل مؤقت إلى أن يتعافى الطلب العالمي عليها. أما بالنسبة لمشكلة التمويل فمن المُفترض أن يكون للحكومات دور فاعل في دعم هذه الصناعة والصناعات المرتبطة بها من أجل المحافظة عليها، وعليه فمن المُتوقع أن تتوجه حكومات الدول الخليجية إلى توفير السيولة الكافية لهذه الصناعات وذلك بتوفير الضمانات الحكومية لها من خلال المؤسسات المالية المتخصصة في الإقراض حتى نضمن استمراريتها وعدم تعثرها. عند النظر إلى صناعة البتروكيماويات في أجزاء من العالم نجد أنها تُعاني ضعفا في التحديث واستهلاكا للآلات والمعدات التي تستخدمها جراء تقادمها، يضاف إلى ذلك شكواها من ارتفاع أسعار اللقيم، فهذا الوضع سيُمكن المملكة والدول الخليجية من لعب دور رئيس في سوق الصناعات البتروكيماوية العالمي وستغدو المصدر الأول والرئيس للمواد الأساسية للصناعات البتروكيماوية ما يجعلها في موقع تنافسي غير مسبوق يُمكنها من السيطرة على هذه السوق العالمية. الدول الخليجية بعامة تستطيع التأثير في مجريات هذه السوق من خلال الاتفاق الرسمي على تكوين كارتل يضم الدول الخليجية مجتمعة، وستعم فائدته دول المنطقة المنتجة لهذه المادة. من خلال الكارتل يتم الاتفاق بين الدول المنتجة على تحديد أسعار مقبولة لمنتجاتها من خلال تحديد حصص إنتاجية لكل دولة عضو، وعلى هذا الأساس فهو يُعد من الناحية النظرية نظام رسمي للاندماج بين الدول المُوقعة عليه بحيث يُحقق الحفاظ على أسعار معينة يحددها الكارتل سلفا آخذاً في الحسبان ظروف كل بلد على حدة، السوق الدولية، والظروف الاقتصادية العالمية المحيطة، أيضاً وجود الكارتل يُساعد وبشكل قوي على تدعيم هذه الصناعة ما يجعلها تدخلا في منافسة مع المنتجين في الأسواق العالمية. مما سبق يتضح لنا أنه وعلى الرغم من تراخي الطلب العالمي على المنتجات البتروكيماوية إلا أن الفرصة ما زالت سانحة لاستكمال ما تبقى منها وإقامة أخرى جديدة بسبب الانخفاض الملحوظ في تكاليف إقامة مثل هذه المشاريع مقارنة بالماضي القريب, وبالأخص إذا كانت استراتيجيتنا الصناعية واعية ومدركة لأهمية مثل هذه المشاريع المستقبلية. مُؤدى ما سبق، صناعاتنا واعدة والفرص المواتية أفضل إذا أحسنا استغلالها وتوظيفها التوظيف الأمثل, وذلك من خلال التنسيق الجاد داخل أروقة الكارتل المُقترح أو على الأقل من خلال الهيئة العُليا الخليجية للتصنيع التي سبق أن أشرت إلى أهمية وجودها في مقام سابق. مثل هذا التكتل أو على الأقل التنسيق يدفعنا إلى الاستمرار في التحرك قُدما، أما في ظل غياب مثل هذا التنسيق فلا شك أن صناعاتنا الخليجية ستقع في فخ المنافسة الحاد فيما بينها ما قد يجلب لصناعاتنا ودولنا الخسائر التي نحن في غِنى عنها.
|