تبين من قصص المقالات الماضية أن أحد مسوغات تدخل الحكومة في التسعير هو حماية المستهلك، وتبين في نهاية القصص أن المستهلك كان الضحية. وتم استخلاص نتيجة مهمة من تلك القصص وهي أنه لو كان في التسعير الحكومي خير لأمر به الإسلام. وهناك مسوغات أخرى للتسعير الحكومي منها حماية الصناعة المحلية، التي ستكون محور مقال اليوم.
إن حماية الصناعة المحلية عن طريق تدخل الحكومة في تسعير السلع التي تنتجها هذه الصناعة لا يقل خطراً عن أي تدخل حكومي آخر، والمستفيد الوحيد من أموال الشعب في هذه الحالة هم الأغنياء ملاك هذه المصانع. وإذا أرادت الحكومة دعم الصناعة المحلية فهناك سياسات أخرى غير التسعير، وغير التعرفة الجمركية التي تؤثر في السعر. وتشير الدراسات التي ركزت على صناعات مختلفة في عديد من الدول إلى أن نمو الصناعة المحمية يماثل نمو الصناعة غير المحمية، وفي بعض المجالات فاق نمو الصناعات غير المحمية الصناعات المحمية. ولكن السؤال المنطقي هو: لماذا يبحث بعض المصنّعين المحليين عن الحماية؟ وكيف يستفيد المستهلك من ارتفاع أسعار تلك السلعة؟ إن السبب الأول الذي يذكر في بعض الدول هو حماية العمالة المحلية, ولكن هذا لا ينطبق على الدول الخليجية لأن أغلب العمالة في هذه المصانع عمالة وافدة. وإذا كانت الحجة أن الصناعة ناشئة ولا تستطيع منافسة الصناعة العالمية، وأنه يمكن رفع الحماية بعد فترة عندما تصبح هذه الصناعة قادرة على المنافسة، فإن هذه الفكرة مرفوضة من الأساس لأن طبيعة الاستثمار أن يقوم المستثمر بالمخاطرة على أن يسترد رأسماله في المستقبل على مدى عدة سنوات. بعبارة أخرى، إذا كان المستثمر متيقنا من نجاح المشروع، أليست من طبيعة العمل ألا يكسب في البداية، ويكسب بعد تلك الفترة؟
 |
سيارات الجولف البولندية
نظرا لعدم منطقية التسعير لحماية الصناعة المحلية من جهة، ولارتباط غالبية الحكومات بمعاهدات عالمية وثنائية، فإن الحكومات تلجأ إلى أساليب مختلفة للتلاعب على هذه الاتفاقيات والقوانين بهدف التدخل في التسعير لحماية الصناعة المحلية. وهناك قصص كثيرة حول العالم، إلا أن أكثرها دلالة قوانين الإغراق الأمريكية التي تهدف في النهاية إلى دعم الصناعة المحلية عن طريق رفع أسعار السلع التي تنتجها هذه الصناعة.
ويُعرّف الإغراق بأنه بيع السلعة في بلد آخر بسعر أقل من التكلفة بشكل مقصود ولفترة طويلة بهدف تحطيم المنافسين في ذلك البلد. وهذا النوع من الإغراق نادر، ولكن توجد حالات، غالبا ما تكون موسمية تنخفض فيها الأسعار بأقل من التكلفة بسبب عوامل السوق، وليس بهدم تدمير الشركات المنافسة، ولا يعد هذا إغراقاً. إلا أن القانون الأمريكي تبنى تعريفا آخر للإغراق وهو بيع السلعة في الأسواق الأمريكية بأقل من سعرها في البلد المُنتِج. وعلى الرغم من مخالفة هذا التعريف المنطق، وعلى الرغم من كل المشكلات التي نتجت عنه، إلا أن الولايات المتحدة ما زالت تستخدمه حتى الآن. وكان من أهم نتائج هذا القانون ارتفاع الأسعار داخل الولايات المتحدة وانتقال المصانع الأجنبية إلى داخل الولايات المتحدة. هذا يعني أن تدخل الحكومة في التسعير لحماية الصناعة المحلية أدى إلى انتقال المنافسة إلى الداخل، بدلا من أن تكون بين صناعة الداخل والخارج، ولكن الشركات ما زالت نفسها! فها هي "تويوتا" تبيع سيارة الكامري في الولايات المتحدة بأقل من سعرها في اليابان، ولكنها كامري "أمريكية"! وبذلك تفادت قانون محاربة الإغراق. |
فوجئت منظمات حماية المستهلك الأمريكية في الثمانينيات من القرن الماضي بقيام إحدى هيئات وزارة التجارة بفرض ضرائب قدرها 400 في المائة على واردات سيارات الجولف الكهربائية من بولندا، خاصة أن هذه الضرائب تخالف الاتفاقيات التجارية العالمية. وعندما طالبوا الوزارة بتفسير لما حصل أكدت الوزارة أن تصرفاتها تتوافق مع القوانين المحلية والدولية واتفاقيات التجارة الحرة التي تعطيها الحق في فرض ضرائب ضخمة على السلع المستوردة إذا كانت تغرق السوق المحلية. وقالت الوزارة في ردها إن بولندا تبيع سيارات الجولف البولندية في الأسواق الأمريكية بأقل من سعرها في السوق البولندية، وهذا يعد إغراقا حسب التعريف الأمريكي للإغراق. وكان رد جمعيات حماية المستهلك صاعقا: ولكن البولنديين لا يلعبون الجولف، وليست هناك سوق لسيارات الجولف في بولندا، فكيف جئتم بالسعر! (تبنت بعض دول أوروبا الشرقية في تلك الفترة سياسة بناء صناعات للتصدير فقط، وليس للاستهلاك المحلي، وكان تصنيع سيارات الجولف واحدة منها). أجاب المسؤولون من وزارة التجارة بأنهم سيتحدثون مع الخبراء في الوزارة وسيردون على هذا التساؤل عندما يحصلون على إجابة. لم تحصل الجمعيات على أي إجابة، ولكن بعد إصرار ومتابعة، حصلوا على الجواب التالي بعد عدة شهور: "بولندا دولة شيوعية لا تتبع نظام السوق الحرة، لذلك لا يوجد سعر. ولكن قرارنا بفرض الضرائب على ورادات سيارات الجولف البولندية يعود إلى حقيقة مفادها أنه لو كانت بولندا دولة حرة، لكان السعر مماثلا للسعر في كندا"! نعم، هذا ليس خطأ مطبعيا .. كندا!
طالبت الجمعيات باجتماع آخر، وفي الاجتماع جرى حوار طويل حول التعريف الخاطئ للإغراق وأثره السيئ في المجتمع، كما بينت الجمعيات للحكومة أن اختيار كندا هو اختيار متحيز لأنها الدولة الوحيدة التي تباع فيها سيارات الجولف بسعر أعلى من السعر في الولايات المتحدة. ووعد مسؤولو وزارة التجارة جمعيات حماية المستهلك بأنه سيتم تبني نظام جديد وتعريفات جديدة للإغراق، ستسهم في تحسين السيارات التجارية للولايات المتحدة، وسيتم تبنيها بعد انتهاء القانون الحالي. |
بعد مرور أربع سنوات، وهي مدة القانون، توقع المعنيون ألا تجدد الحكومة ضرائبها على سيارات الجولف البولندية، التي توقف استيرادها تماما بسبب هذه الضرائب. إلا أن الحكومة فاجأت الجميع عندما استمرت في فرض الضرائب لحماية الصناعة المحلية. جرى نقاش حاد في الاجتماع الذي عقد بين المعنيين في الأمر مع وزارة التجارة، وكان أشدهم غضبا مسؤولو جمعيات حماية المستهلك الذين ذكّروا مسؤولي وزارة التجارة بوعودهم. كان رد وزارة التجارة بسيطا: "نشكركم على جهودكم واهتمامكم, لقد استفدنا كثيرا من الحوار معكم في السنوات الماضية حيث قمنا بتغيير النظام بالكامل. وبناء على نصيحتكم، قررنا التخلي عن مقارنة الأسعار بين البلدين، وتبنينا طريقة التكاليف بدلا من السعر". والفكرة هنا أن طريقة التسعير تقوم على تفكيك المنتج إلى أجزائه الأساسية ثم تسجيل تكاليف كل جزء، فإذا كانت تكاليف مجموع الأجزاء أعلى من سعر البيع في الولايات المتحدة، فإن هذا يعد إغراقاً. وتشير حسابات وزارة التجارة إلى أن تكاليف إنتاج سيارات الجولف البولندية أعلى من سعرها في الأسواق الأمريكية. عندها قام أحد الخبراء من الطرف الآخر وقال: "ولكن هناك مشكلة في الحسابات لأن تكلفة ساعة العمل في حساباتكم أعلى من تكلفة ساعة العمل في بولندا بنحو 13 مرة. ولو وضعتم التكلفة الحقيقية لاكتشفتم أن التكلفة أقل من السعر في الولايات المتحدة، وبالتالي فليس هناك إغراق، ويجب إلغاء الضريبة". علت الأصوات، وأصبح اللغط سيد الموقف. عندها أعلن مسؤول كبير من وزارة التجارة نهاية الجلسة وقال إنه سيتحقق من الأمر وسيتصل بالجميع للإجابة عن هذا التساؤل. بعد أسبوعين وصلت رسالة مفادها أنه نظرا لأن الأجور في بولندا محددة من الحكومة، وهي منخفضة جدا، فإنه تم تبني معدلات الأجور في إسبانيا لأنه لو لم تقم الحكومة البولندية بتحديد الأجور، لكانت الأجور مماثلة لإسبانيا"!
وكان من ضمن التعليقات في جلسات التفاوض مع الوزارة "هل يعقل أن يقوم الشيوعيون الذين يكرهون الرأسماليين بإنتاج السيارة بتكلفة عالية ثم تقديمها بسعر منخفض لكبار الرأسماليين الأمريكيين كي يستمتعوا بها"! استوقفتني هذه الجملة...هل تقوم بعض الدول العربية بتصرف تنطبق عليه هذه الجملة مع اختلاف المسميات؟
* نقلا عن صحيفة "الإقتصادية" السعودية. |