هبوط أسعار النفط يهدد مستقبل الاستثمار في الطاقات المتجددة
هبوط أسعار النفط يهدد مستقبل الاستثمار في الطاقات المتجددة
د. ياسر طه مكاوي
كنت قد أشرت في مقال سابق إلى تزايد الاستثمار في مجال الطاقات المتجددة خلال الأعوام القليلة الماضية, وذلك على الرغم من الأصوات المطالبة بتوخي الحذر والمشككة في جدواها الاقتصادية. الإنفاق على الطاقات المتجددة كان مدفوعاً برغبة الدول الصناعية الكبرى الالتزام بوعود كانت قد قطعتها بشأن تقليص حجم الانبعاثات الحرارية الناتجة من حرق الوقود التقليدي إضافة إلى توفير مصادر طاقة محلية وبأسعار تنافس الوقود التقليدي. اليوم مع بلوغ الأزمة الاقتصادية أشُدها ومع استمرار تدهور أسعار النفط يبدو أن جهات صنع القرار والتخطيط في مجال الطاقة قد بدأت فعلاً الأخذ في الحسبان بمثل هذه المحاذير, على الأقل إلى حين اتضاح الرؤية بخصوص الوضع الاقتصادي العالمي.
في بريطانيا أوصت لجنة الشؤون الاقتصادية بمجلس اللوردات في آخر تقرير صادر بتاريخ 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008 بالتوازن في الاستثمارات، حيث ألا يكون الاهتمام الزائد بالطاقات المتجددة على حساب خيارات أُخرى. أوصت اللجنة أيضاً بالتوسع في الاعتماد على الطاقة النووية لإنتاج الكهرباء، كما أوصت باستمرار الاعتماد على الوقود التقليدي مع العمل الجاد لرفع كفاءة سبل الإنتاج والاستخدام وتطوير طرق حبس وتخزين ثاني أكسيد الكربون منعاً للتلوث البيئي. هذا بالطبع لا يعني إهمال البحوث والتطوير في مجال الطاقات المتجددة بشكل نهائي, فاللجنة أيضاً أوصت بتطوير تقنيات جديدة لتخزين الطاقة الكهربائية، حيث يمكن استغلال مصادر الطاقة المتقطعة كالشمس والرياح بصورة أكثر كفاءة.
جدير بالذكر أن بريطانيا كانت قد وعدت الإتحاد الأوروبي بإنتاج 15في المائة من طاقتها من مصادر متجددة بحلول عام 2020م, وذلك بهدف التقليص من حجم الانبعاثات الحرارية. كان من المخطط أن يتم ذلك الاعتماد بشكل رئيس على ثلاثة مصادر للطاقة المتجددة وهى الكتل الحيوية, الرياح والشمس. إلا أنه مع هبوط أسعار النفط بات واضحاً الآن أن الاستمرار في هذا الاتجاه هو مغامرة غير محسوبة العواقب، وقد تكلف كثيراً في ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية. حتى من الناحية التقنية سيكون من الصعب جداً الإيفاء بمثل هذه الوعود خلال السنوات العشرة المقبلة فقط. لذلك ترى اللجنة أن الاستمرار في استخدام الوقود التقليدي مع تطوير الكفاءة وتخزين ثاني أكسيد الكربون هو خيار استراتيجي يفي بالغرض في المرحلة الحالية، كما أنه يوفر ملايين من الدولارات التي يمكن استثمارها في تطوير البحوث والتجارب في الطاقات المتجددة في وقت لاحق حين يتعافى الاقتصاد العالمي من وعكته الحالية.
معروف أن أحد العيوب الأساسية في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح هي في كونها مصدرا متقطعا للطاقة كما ذكرت سابقاً وبذلك تحتاج إلى تقنية متطورة لتخزين الطاقة الناتجة للاستفادة منها أثناء الليل أو حين تضعف قوة الرياح. هذا من ناحية, أما من الناحية الأخرى فإن هبوط أسعار النفط لمعدلات ما دون الـ 50 دولاراً للبرميل يضعها في مقارنة غير متكافئة على الإطلاق من ناحية التكلفة. على ضوء هذه المستجدات فإنه من المتوقع أن يزداد الاستثمار البريطاني خلال السنوات القليلة المقبلة في تطوير تقنيات جديدة لتخزين الطاقة وهذا هو السبيل الوحيد لإعادة الطاقة الشمسية وطاقه الرياح إلى وضعها المتميز الذي كانت عليه منتصف العام الماضي.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية فيعتقد كثيرون أن الرئيس الجديد أوباما وضع نفسه في موقف حرج بعد أن كان قد جعل الطاقات المتجددة ومحاربة الانبعاثات الحرارية أحد أهم شعارات حملته الانتخابية. ففي خضم الركود الاقتصادي ضرب أوباماً وتراً حساساً حين وعد بتوفير مليونين و500 ألف فرصة عمل جديدة في المشاريع المقترحة لإنشاء محطات طاقة جديدة أو مصانع سيارات حديثة تتوافق مع خطط خفض الانبعاثات الحرارية من الوقود التقليدي بنسبة 80 في المائة بحلول عام 2050. لهذا الغرض أعلنت إدارة أوباما خطتها رصد نحو 150 مليارا لفترة السنوات العشر المقبلة. السؤال الآن هل يستطيع أوباما الوفاء بوعوده إذا استمر الوضع الاقتصادي العالمي وأسعار النفط على ما عليه الآن؟
في الحقيقة تكمن إجابة هذا السؤال في التمعن في تاريخ الولايات المتحدة الحديث, ففي خلال الأعوام من منتصف القرن الماضي إلى بداية الثمانينيات ظلت الميزانية المرصودة لأبحاث الطاقة في ازدياد تماشياً مع صعود أسعار النفط إلى أن بلغت القمة إبّان فترة الرئيس جيمي كارتر, ثم جاء الرئيس ريجان الذي يقال إنه بدأ عهده بإزالة ألواح الطاقة الشمسية من البيت الأبيض, في إشارة منه إلى عدم أهميه الطاقات المتجددة في ظل توافر النفط بأسعار معقولة. ثم استقرت الميزانية المرصودة لأبحاث الطاقة لفترة طويلة بعد ذلك مع الاستقرار النسبي لأسعار النفط حتى بداية القرن الحالي, ليزداد الإنفاق في أبحاث الطاقة مره أخرى مع تجاوز سعر برميل النفط حدود 140 دولار في العام الماضي.
أوباما لن يشذ عن هذه القاعدة, و لذلك من المتوقع أن تنحصر جهوده في مجال الطاقة إلى حد كبير في بعض مشاريع رفع كفاءة سبل إنتاج الطاقة التقليدية مع بعض الجهود في تطوير طرق عزل وحبس ثاني أكسيد الكربون, وفي ذلك لن يختلف كثيراً عن توصيات مجلس اللوردات البريطاني. ربما أيضاً ينجح أوباما في إقناع أعضاء الكونجرس بدعم الجهود للتحول نحو السيارات الكهربائية, وبذلك يفي ببعض الوعود لتوفير عدد محدود جداً من فرص العمل الجديدة. أما بخصوص الطاقات المتجددة الرئيسة كالشمس والكتل الحيوية والرياح فللأسف الصورة أصبحت قاتمة جداً في ظل الوضع الاقتصادي الراهن. إلى حين أن تتضح الأمور يبقى الأمل في ارتفاع أسعار النفط مرة أخرى, ففي ذلك خير للدول المنتجة للنفط كما هو خير لأنصار الطاقات المتجددة من أمثالي.
|