البنوك المركزية ونظرية المصارف الإسلامية
د. محمد عبدالحميد الفقي
لم يكن النظام المالي العالمي محصناً بما فيه الكفاية، وليست لديه الاستحكامات والخطط الدفاعية المنيعة التى تبقيه متينا في وجه الأعاصير، وجشع المرابين، وعبقرية الربا وتجلياته . وكان ضروريا أن تسارع حكومات العالم إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لإنقاذ النظام المالي العالمي من الانهيار، وإبعاد شبح الكساد الأعظم.
وتفاوتت هذه الإجراءات بين خفض أسعار الفائدة، وتأميم بعض المؤسسات، (وهو إجراء اضطراري يتسم بأنه اشتراكي أو معاكس للنظام الليبرالي الرأسمالي)، ووضع مؤسسات تحت وصاية المصرف المركزي، وضمان الودائع، وضمان القروض بين المصارف، وضخ السيولة، وغير ذلك من إجراءات (علاجية أو احترازية) في إطار تعاون دولي في محاولات لإنقاذ مالي عالمي الصبغة، بينما تركت مؤسسات أخرى لتواجه إعلان الإفلاس.
وأياً كانت الإجراءات الحكومية فإنها تهدف إلي إشاعة أجواء الثقة، وحماية النظام المالي لدولها من عواصف الخارج، وتوفير السيولة اللازمة للاقتصاد استجابة لحاجات المجتمعات والمحافظة على قوة الدفع التنموي.
وفي دولة الإمارات العربية أعلنت الحكومة عن ضمان الودائع، والقروض بين المصارف الوطنية بالدولة، وبلغت قيمة الأموال التي تم ضخها في الجهاز المصرفي منذ بداية الأزمة 120 مليار درهم، إلى جانب الضمان الحكومي للودائع والمدخرات في البنوك الوطنية والأجنبية، لمدة ثلاث سنوات، ومن شأن ذلك أن يعطي مصداقية للقرارات القومية، ويعزز قدرة المصارف على تمويل الأنشطة الاقتصادية حسب الأولويات، وإشاعة أجواء الثقة بالنظام المصرفي، واستقطاب الاستثمارات والودائع من خارج الدولة.
ويمثل ذلك لونا من رد الفعل الفوري للدولة وقدرتها على امتصاص الأزمة، الأمر الذي يفسر على أنه يعود لفهم صحيح لحركة الاقتصاد العالمي وقوة الموقف المالي المحلي.
ومن المرجح أن هذه الأزمة سوف تنهي أحادية الهيمنة المالية والعولمة الأمريكية للنظام المالي الدولي، ليحل محلها نظام متعدد الأقطاب ستكون الولايات المتحدة جزءا منه بالإضافة إلى أوروبا، والصين، والهند، وروسيا، واليابان، والبرازيل، ودول مجلس التعاون الخليجي. |
وبالتأكيد يمكن للاقتصاد الإسلامي أن يساهم في الحدّ من آثار الأزمة المالية وأزمة المنظومة الاقتصادية ووضع نظام مالي عالمي أكثر عدالة للبشرية . ولكن الأمر بحاجة إلى نموذج ومشروع جاهز.
أما المصارف الإسلامية بوضعها الراهن، ومن خلال متابعة أداء الفترة ما بين الكارثتين فما حالها برؤية محايدة ونقد بناء؟ ذلك إذا قلنا إن العالم الآن يراجع فهل نراجع؟ لاشك فإن أداءها الاقتصادي والفكري يعتبر جيدا إجمالا على الرغم مما شابها من خروج على بعض الثوابت النظرية أحيانا.
والقصد من القول هنا: هو إعادة فحص جميع الفتاوى الصادرة عن الهيئات الشرعية خلال الفترة ما بين الكارثتين (11 سبتمبر/ ايلول 2001 و15 سبتمبر 2008) للتأكد من عدم خروج بعض عمليات المتاجرة عن طبيعتها من كونها وجوبا في السلع والخدمات، أو حقوق ملكية، لموجودات فعلية وموجودة، أو في موجودات موصوفة في الذمة على ما حدده العلماء منذ القدم، ومن الأساليب المرفوضة التي يجب فحصها للتأكد من عدم ممارستها: البيع القصير (البيع على المكشوف) والشراء الطويل (المقامرة على ارتفاع سعر السهم) وتأجيل البدلين في البيع، وبيع المصرف ما لا يملك، وبيع الدين بالدين، وربح مالا يضمن، حتى لا تكون المعاملات أقرب إلى الوهم وأبعد عن الحقيقة من المعاملات التي تجيزها الشريعة الإسلامية الغراء.
وهذا الفحص سيؤكد حرص المصارف الإسلامية على التزامها الشرعي الذي هو سر نجاحها . نحن أمام مرحلة يتوجب أن تكون قد انتهت بفشل المنظومة الربوية، والمطلوب هو: تقويم تلك المرحلة للخروج بالدروس والعبر وتصحيح المسار، والأخذ بالعزائم، والنظر في المآلات ومصالح الأمة والالتزام بمقاصد الشريعة وسد الذرائع، ومقتضى الاستخلاف وهو عمارة الأرض، وتجاوز الرخص والحيل الفقهية، والفتاوى المؤقتة أو المرحلية، لتعود للمصرفية الإسلامية خصوصيتها والمحافظة على ذاتيتها حتى يمكن تقديمها للعالم منقذا من الربا بسجل يخلو من الزلات. |
لذلك يجب أن تسارع المصارف المركزية خصوصاً في دولة كان لها قصب السبق في إصدار قانون رقابي على المؤسسات التي تعمل وفق أحكام الشريعة (القانون رقم 6 لسنة 1985 والذي يعد بمثابة الإطار العام لممارسة النشاط المصرفي الإسلامي ومراجعته) إلى تشكيل لجنة عليا محايدة يتم انتقاء أعضائها من أهل التقوى والعلم والدراية -حتى لا تكون المسألة مجرد تبديل أقنعة- وأن يتم عملها في ضوء رسالة واضحة للمصارف الإسلامية، والثوابت التي قامت عليها نظرية المصارف الإسلامية، واستراتيجية واضحة تعتمد صحيح الشرع، غرضها الأول مراجعة ما سبق الإفتاء به خلال المرحلة المذكورة بالذات وأن تكون لها صفة الإلزام والاحترام.
إن ذلك سوف يؤدى إلى تحسين واقع المصرفية الإسلامية في هذا الجانب الهام، والمحافظة علي سمتها الخاص، وتوحيد الرأي الشرعي في أعمالها، والقضاء على تضارب الآراء، حتى يمكن تقديم المصرفية الإسلامية لإنقاذ العالم من كبوته وانتشاله من الغرق في وحل الربا المتعولم، والمساهمة في رسم معالم المرحلة المقبلة، ولا يزعم بعد ذلك مغرض قائلا "كله سواء لا فرق".
إنها فرصة للتصحيح والعودة إلى الجذور والتمسك بالثوابت، أن نقدم للعالم مصرفية إسلامية تمثل جانبا هاما من شرع ربنا سبحانه، "وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم".
نقلاً عن صحيفة "الخليج" الإماراتية. |